من أعلام الأزهر الشريف
الأستاذ الدكتور جودة محمد أبو اليزيد المهدي
عضو مجمع البحوث ونائب رئيس جامعة الأزهر
بقلم تلميذه
الدكتور / محمد إبراهيم العشماوي
مدرس الحديث الشريف بكلية أصول الدين
في زمن كثر فيه المتلونون بحثاً عن
منفعة، أو فراراً من مضرة، رحل عن عالم الضجيج – في صمت – الطود الراسخ، والجبل
الأشم الشامخ، قدوة الثابتين على المبدأ، العلامة الجهبذ المحقق الناقد علم
المفسرين وشيخ الصوفية المحب الوله العارف الأستاذ الدكتور جودة محمد أبو اليزيد
المهدى، حيث فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها: مساء يوم الخميس 22/11/1433هـ ،
الموافق 20/10/2011م. عن عمر يناهز سبعة وستين عاماً، وذل إثر أزمات قلبية متكررة،
نقل على أثرها إلى المستشفى الجامعي بطنطا حيث وافته المنية وصلى عليه بالمسجد
الأحمدي، وشيعت جنازته في موكب مهيب عقب صلاة الجمعة، ووسد جثمانه الثرى في جوار
والده الشيخ محمد أبي اليزيد، بضريحه في مقابر طنطا.
مولده ونشأته:
ولد شيخنا رحمه الله في 7/4/1944م في
قرية العزيزية التابعة لمركز منيا القمح بمحافظة الشرقية ، لأبوين شريفين يتصل
نسبهما بالنسب النبوي المبارك، وكان وحيد أبويه، فتوجهت عنايتهما إليه، وتوفرت
همتهما عليه ، حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، ثم انتقل مع أسرته إلى مدينة طنطا،
حيث التحق بالمعهد الأحمدى (الجامع)، شقيق الجامع الأزهر، كما يسميه المؤرخ
الدكتور مجاهد الجندى.
وقد نشأ الشيخ نشأة صوفية خالصة في
بيت ولاية وعلم، فأبوه هو الشيخ محمد أبو اليزيد، كان رجلاً صالحاً معتقداً من
العامة ، وله كرامات ظاهرة ، كان يجاور بالمقام الأحمدى ، وأخبرني شيخنا – رحمه
الله – أن الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود كان يقصده للزيارة والتبرك في
بيته في طنطا، وهو يومئذ شيخ للأزهر! وجده لأمه الشيخ جودة إبراهيم – الذي سمى
باسمه تيمنا – أحد الأولياء المذكورين في مدينة منيا القمح ، وله مقام يزار،
ويحتفل به في كل عام، وقد ترجم له شيخنا في كتابه "النفحات الجودية في مناقب
وأوراد الطريقة النقشبندية"، ورفع قدره، وفخم أمره، وذكر له كرامات باهرة
وخوارق عجيبة، وقد كان الشيخ متيماً به، حريصاً على زيارته، حتى أنه ظل يسافر من
طنطا إلى منيا القمح زمناً طويلاً؛ لأداء خطبة الجمعة وإلقاء الدروس بمسجد جده
هذا.
نشأ الشيخ في تلك البيئة الصوفية
العريقة، فلا جرم أشرب في قلبه حب الصوفية، فعلى أيديهم تربى ، ومن أقواتهم تغذى ،
ومن معارفهم شرب وارتوى ، فلم ير غيرهم ، ولم يسمع سواهم، ولم يعلق قلبه بأحد
دونهم، وكان مولعاً بالتشبه بهم في كل شيء إلى حد التسمي بأسمائهم، فقد سميَّ بعض
ولده باسم السيد أحمد البدوي، وسميَّ آخر باسم السيد أبي اليزيد البسطامي، وهذا
فضلاً عن محمد والحسين وفاطمة وزينب ونفيسة! وهو نفسه سمى جده الشيخ جودة ، ووالده
سمى الشيخ أبي يزيد. اشتهر الشيخ – رحمه الله – بتعلقه الشديد بالسيد البدوي ،
وبالدفاع عنه ، ورد الشبه المثارة حوله، حتى أنه كتب كتاباً علمياً حافلاً سماه
"حقيقة القطب النبوي السيد أحمد البدوي"، وهو خير من يتكلم عنه ، حتى
لقد سمعت شيخنا الدكتور أحمد عمر هاشم – في محاضرة له عندنا في كلية أصول الدين في
طنطا إبان تولية رئاسة جامعة الأزهر – يعتذر عن الكلام عن السيد البدوي في حضور
الشيخ، ويقول: هو خير من يتكلم عنه! وكان الشيخ مواظباً على حضور مجلس دلائل
الخيرات وغيره من مجالس الذكر في مقام السيد، وكنت لا تخطئه هناك إلا لعذر قاهر.
وكان من أسرار تعلقه الشديد به – كما
أخبرني بنفسه – أن والده كان يأمره في ذهابه وإيابه من المعهد الأحمدى – وهو طالب –
أن يمر بمقام السيد، ويسلم عليه، ويقبله، ويقرأ له الفاتحة، ويدعو، وشب الشيخ على
هذا، وشاب ، ولم يتركه حتى توفاه الله عز وجل! وقد تعرض للانتقاد الشديد والهجوم
عليه، بل واتهامه في عقيدته بسبب هذا التصرف، وامتحن بسببه، وأوذي ، وهو ثابت لا
يتزلزل، ولم يزل خصومه في شد وجذب معه حتى سعوا به إلى الإمام الأكبر الراحل الشيخ
جاد الحق، فاستدعاه إلى مكتبه بمشيخة الأزهر ليسمع منه، ولقد دخلت على شيخنا مكتبه
يوماً – وهو عميد لكلية القرآن، وكان يسر إلىَّ ببعض أسراره – فرأيته يراجع بعض
الكتب ، وينقل منها نصوصاً ، ويوثق ، ويحقق – كعادته دائماً – في مسألة تقبيل
الأعتاب، والطواف حول الضريح ، فسألته عن السبب ، فأخبرني أن الإمام الأكبر قد
استدعاه ، ولا يدري لماذا ، غير أن أكبر ظنه أنه بسبب ما يفعله في مقام السيد، وقد
صدق – والله – ظنه، وحين تمت المقابلة أخبرنى بما جرى فيها، وأنه ساق للإمام
الأكبر الأدلة العلمية على جواز هذا الفعل شرعاً، وأنه لا يمكنه أن يخالف الشريعة
في شيء، وهو من المعظمين لها، المستمسكين بحبلها، وأن الإمام الأكبر قد اقتنع
بكلامه، لكنه نصحه ألا يفعل؛ لئلا يساء به الظن ممن لا يفهم، ولأنه في موضع القدوة
من الخواص فضلاً عن العوام! وامتنع الشيخ فترة لموضع النصيحة، ثم عاد مرة أخرى ،
فقد غلبت عليه قناعاته الشخصية والعلمية ، وألغت مشاعره الفياضة تجاه الأولياء كل
اعتبار ، ولسان حاله يقول:
أمرُّ
على الديار ديار ليلى أقبل
ذا الجدار وذا الجدارا
وما
حبُّ الديار شغفن قلبي ولكن حب
من سكن الديارا!
ومن بالغ حبه للصوفية وتعظيمه لمنهجهم
أنه كان يشغل جُلَّ مجالسه بذكرهم، ونقل كلامهم ، وحكاية أحوالهم، وسرد أخبارهم ،
ويقدمهم على كل شيء سواهم ، ويحول الحديث إليهم لأدنى مناسبة ، ويحب من جليسه أن
يكون كذلك:
لها
أحاديث من ذكراك تشغلها عن الشراب
وتُلهيها عن الزاد!
ومن عجيب أمره في ذلك أن عنده لكل
مناسبة حديثاً عنهم، مهما استبعد وجود ذلك منهم، فقد يكون الكلام في شيء من الأمور
العصرية، التي يُستبعد وجود مثلها عند الصوفية فضلاً عن غيرهم، لكنه يأتيك بخبر أو
حكاية أو عبارة من عندهم تناسب المقام، وتصيب المرام، فقد كان يستخرج النكتة من
كلامهم بالمنقاش!
وقد كان الشيخ حريصاً على مجاورة آل
البيت، والقرب من أولياء الله الصالحين في حياتهم وبعد وفاتهم ، فبيته في طنطا يقع
خلف المسجد الأحمدى، وقد ترك الإقامة في هذا البيت في السنوات الأخيرة ، وانتقل
إلى بيت آخر قريب منه على بُعد بضعة أمتار في نفس الاتجاه، لكنه أكثر قرباً من
مقام السيد حيث يقع قبالة المقام! وللشيخ استراحتان في القاهرة إحداهما مجاورة
للمسجد الحسيني ، والأخرى قريبة من مسجد السيدة زينب!
ولقد اشتهر الشيخ بين أهل عصره بأنه
لسان الصوفية ، وحامل راية التصوف، وهذا حق، فإنه هو الأشهر في هذا الميدان كتابة
وتأليفاً، ومحاضرة ومناظرة ، ومنهجاً وسلوكاً، ودعوة وجهاداً ، بعد وفاة أمثال المشايخ الكرام : عبد الحليم محمود ،
ومحمد زكى إبراهيم، ومحمد خليل الخطيب وغيرهم من طبقة شيوخه الذين اشتهروا بالتصوف
علماً وعملاً وحالاً، وقد خلفهم الشيخ في هذا الطريق، وحمل الراية من بعدهم ! ولقد
انعقد المؤتمر الصوفي العالمي مؤخراً في القاهرة، وغاب الشيخ عن المشهد لظروف
مرضه، فكان من تعليق بعض الأكابر: لقد غاب فارس الميدان! ورغم هذه الصوفية العريضة
للشيخ وشهرته بها؛ إ أنه لم يتبوأ منصباً رسمياً في الطرق الصوفية، ولا حتى مشيخة الطريقة
النقشبندية التي ينتسب إليها، ولم يكن يطمح إلى شيء من ذلك، فقد كان يرى أن جهاده
العلمي والدعوى ، وقيامه بالتربية الروحية للمريدين أجل من تلك المناصب الرسمية ،
وأوسع وأنفع للمسلمين منها فالشيخ من شيخه العلم لا من شيخته الوظائف!
وللشيخ من المؤلفات العلمية في التصوف
: النفحات الجودية ، حقيقة القطب النبوى السيد أحمد البدوى – وقد مرت الإشارة
إليهما - ، شوامخ من أعلام الصوفية ، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات كتبها وهو
معيد بكلية أصول الدين في فترة السبعينيات، ونشرها في مجلة منبر الإسلام ، وأخبرني
أن الشيخ عبد الحليم محمود كان معجباً بكتابته؛ وأنه بشره بمستقبل عظيم ! وقد جمع
تلك المقالات، وزاد عليها بعض التراجم، وعمل مقدمة للكتاب، وكنت أعاونه في الإعداد
لهذا الكتاب ومراجعته، وكنت قد أشرت على فضيلته – إذ استشارني – بأن يرتب الكتاب
على الطبقات ، وقد فعل. وللشيخ مؤلفات أخرى في التصوف بعضها في الأوراد والأذكار
العامة والخاصة، وبعضها في التأصيل للمفاهيم والمناهج الصوفية ، وبعضها في الرد
على شبه الخصوم ، وبعضها مقدمات علمية رصينة لكتب صوفية محققة.
لقد كانت فكرة التصوف هي القضية
الكبرى التي يؤمن بها شيخنا، ويؤصل لها، ويدعو إليها، ويناظر عليها، وينافح عنها،
وكان كثيراً ما يتمثل بقول إبراهيم بن أدهم: "لو علم الملوك وأبناء الملوك ما
نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف"! ولقد كانت قضية التصوف شغله
الشاغل الذي ملك عليه أقطار نفسه، واستغرق الكثير من وقته وجهده، وهيمن على فكره
وقلمه، حتى في بحوثه العلمية التخصصية، فقد كتب بحوثاً قيمة عن الاتجاه الصوفي عند
بعض المفسرين، ممن لم ينسب قط إلى تصوف، كالإمام القرطبي وغيره، بل طلب مني أن
أكتب بحوثاً مماثلة عن الاتجاه الصوفي عند المحدثين، إيماناً منه بأن التصوف الحق
هو ربانية الإسلام، وهو طريق الصلاح والخلاص لهذه الأمة، وهو المنهج الذي كان عليه
السلف الكرام، والذي تتضاءل أمامه كل المناهج ، بغض النظر عن قضية المصطلح ،
والممارسات الخاطئة التي شوهت معالم الحق فيه!
ولقد أوعز إليه البعض يوماً أن يتخلى
عن هذا المنهج، أو بالأحرى يخفف من غلوائه، وانتقاد خصومه، أو على الأقل يقف على
الحياد من جميع التيارات والمناهج، كي تنفتح أمامه كل أبواب الشهرة والرزق في
الداخل والخارج، لكنه رفض بشدة، وأصر على موقفه، وأبى إلا الثبات على المبدأ، وقد
أعرض عن السفر للعمل في الخارج رغم كثرة العروض التي أتته، وترك الظهور الإعلامي
في بعض القنوات، والكتابة في بعض المجلات، فقد كان يرفض التلون من أجل المادة،
ويضحي من أجل الفكرة، وكان يقول لمن يلومه على ذلك: "نحن في بحبوحة من العيش
، والحمد لله الذي أغنانا من فضله"!
مكانته العلمية والأدبية :
تخرج الشيخ في كلية أصول الدين عام
1968م، وكان ترتيبه الأول على أقرانه، كما أخبرني زميل دراسته شيخنا الدكتور سعد
جاويش، وعين معيداً بالكلية في 9/4/1969م، ثم رُقي إلى درجة مدرس مساعد عام 1970م
، ثم حصل على الدكتوراه في التفسير وعلوم القرآن عن رسالته "الواحدى ومنهجه
في التفسير"، وقد طبعها المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ولما افتتحت كلية
أصول الدين بطنطا – وكان اسمها القديم كلية الدعوة – انتقل إليها عام 1977م ، وعين
مدرساً في نفس العام ، وكان يدرس فيها مع كبار مشايخه! ثم رقي إلى درجة أستاذ
مساعد في 18/8/1981م ، ثم إلى درجة أستاذ في 1/7/1985م، ثم عين وكيلاً لكلية أصول
الدين في طنطا عام 1986م، ثم عميداً لها عام 1991م، ثم لما أنشئت كلية القرآن
الكريم في طنطا عام 1992م أسند إليه الإشراف عليها مع عمادته لكلية أصول الدين ،
ثم عين عميداً لها عام 2002م ، وهو أول من تولى عمادتها، ثم شغل منصب نائب رئيس
جامعة الأزهر للوجه البحري عام 2006، وظل يشغله حتى أحيل إلى التقاعد عام 2009م.
واختير الشيخ عضواً بالمجلس الأعلى
للشئون الإسلامية – وكان مقرراً للجنة القرآن والسنة – كما أُختير عضواً بالمركز
الدولي للسيرة والسنة، وعضواً بمجمع البحوث الإسلامية، وكان أحد الأعضاء باللجنة
العلمية الدائمة (!) لترقية الأساتذة بقسم التفسير ، واللجنة العلمية بالمجلس
الأعلى للطرق الصوفية، ونقابة الأشراف، وأشرف على عشرات الرسائل العلمية، وناقش
العديد منها، ودرس وحاضر في العديد من الجامعات والمعاهد والمساجد ، وجاب البلاد شرقاً
وغرباً للدعوة إلى الله تعالى ونشر المنهج الصوفي الأصيل ، في داخل مصر وخارجها.
وقد تتلمذ الشيخ في المعهد الأحمدي
على كبار المشايخ من أمثال : محمد خليل الخطيب، إبراهيم الدسوقي خميس ، توفيق محمد
سبع ، محمود سالم الخطيب. وكان يقول عن الأخير: درس لي طالبا ، وزاملته مدرسا ،
وأشرفت عليه أو ناقشته باحثا – الشك مني -! وكان الشيخ محمود يكبر شيخنا بكثير،
وحصل على الدكتوراه في سن متأخرة من متانته العلمية ، فقد كان من الجيل القديم.
كما تتلمذ الشيخ في كلية أصول الدين
على أعلام عصره من أمثال : عبد الحليم محمود، محمد الغزالى ، محمد السماحى ، محمد
بن فتح الله بدران، محمود النواوي ، أحمد الكومي ، سيد أحمد المسير، أحمدين.
وأخبرني شيخنا الدكتور سعد جاويش بأن الشيخ عبد الحليم محمود كان يحبه كثيراً،
ويقدمه على زملائه، وكان معيداً لدرس الشيخ في غيابه، فقد كان أستاذاً في زي طالب!
وقد تأثر الشيخ ببضع شيوخه تأثراً عظيماً لاسيما الصوفية منهم، كالشيخ الخطيب
والشيخ عبد الحليم محمود.
وأما تلاميذه فلا يحصون كثرة ، ومن
أبرزهم من الطبقة الأولى الدكاتره المشايخ: أحمد عجيبة ، فتحى الزغبي ، مجدى
الصافوري ، ومن الطبقة الثانية : أحمد القرشي ، أحمد أبو الفضل ، مخلوف جلاجل، ومن
الطبقة الثالثة: عبد الله موسى ، ياسر سليمان ، وكاتب هذه السطور.
كان شيخنا – رحمه الله – ممن يحرص
الطلاب على حضور محاضرته ، وتكتظ بهم القاعة، بالرغم من أن محاضرته كانت تقع في
وقت متأخر من اليوم الدراسي ، وذلك بعد أن ينهي الشيخ أعماله الإدارية كعميد
للكلية، فكان الطلاب ينتظرون محاضرته انتظار الظمآن إلى الماء ، فإذا جلس أمامهم
فكأنه بحر يتفجر، أو سيل ينحدر ! فلم تكن محاضرته محاضرة عادية، بل كانت دائرة
معارف علمية! وقد شاركه في هذه الخصوصية الكبار من أبناء جيله من مشايخنا الذين
درسونا في طنطا ، من أمثال : القصبى زلط ، إبراهيم سلامة ، عبد الله الشاذلى،
وفتحى أبو عيسى.
وكان في محاضراته يلتزم الفصحى لا
يحيد عنها، فإذا تكلم أسكت الجميع بفصاحته وجزالته وعمقه وتحقيقه، وكان في شرحه
يمتاز بالموسوعية، لاسيما في التفسير التحليلي، فمن جوانب عقدية ، إلى أخرى فقهية
، إلى ثالثة لغوية! وكان يقول: "من لم يتعلم اللغة من كتب اللغة فسأعلمه
إياها في التفسير"!
وكان ينتهز الفرص للإشارة إلى بعض
المفاهيم الصوفية في تفسيره ، إذ كان يميل بحكم تربيته ونشأته إلى التفسير الصوفي
الإشاري، وينقل فيه عن أعلام المفسين من الصوفية كالقشيري والرازي والألوسي، وكان
بعض الطلاب ممن لا يؤمنون بفكرة التصوف ينتهزون هم الآخرون تلك الفرص لمناقشته في
تلك المفاهيم، فيتسع صدره لهم، ولا يجد في نفسه حرجاً من ذلك ، وكان يكشف ما عندهم
من شبه، ويزيل ما عندهم من لبس ، ويقنعهم بالأدلة، فيروى الغُلة، ويشفي العلة ،
بحكمة الأستاذ ورحمة الوالد ، فيخضعون له الخضوع التام ، ويسلمون له في احترام!
وقد شهد له الموافق والمخالف بقوته
العلمية وبقدرته الفائقة على إقامة الحجج والبراهين على ما يعتقد أنه الحق
والصواب، لا يختلف أحد منهم في ذلك ، وإن خالفوه في المنهج!
ومن مؤلفاته التخصصية التي تدل على
عالميته : تدبر أسرار التنزيل (تفسير سورة الفاتحة)، قصد السبيل في التفسير
الموضوعي لأي التنزيل ، الإيمان والتقوى في القرآن الكريم، فنون الأفنان من علوم
القرآن ، وله كتاب في السيرة النبوية بعنوان "هدى النيرين في سيرة سيد
الكونين". هذا عدا مؤلفاته في التصوف والتي سبقت الإشارة إليها.
وقد كان للشيخ ميول أدبية في صدر
الشباب ، وأخبرنى أنه حاول قرض الشعر فلم يفلح، ولعل شيخه نهاه عنه، وكان يقرأ شعر
نزار قبانى وصلاح عبد الصبور، كما كان يقرأ لنجيب محفوظ وغيره من أعلام الكتاب، ثم
حببت إليه العلوم الشرعية، فانصرف إليها عن الأدب والشعر، ونعما ما فعل ! فلئن كنا
خسرناه أدبياً أو شاعراً ، فلقد كسبناه عالماً لا يشق له غبار!
ولقد كان لقراءاته الأدبية السابقة
أثر كبير في ترقيق مشاعره، وترهيف إحساسه، فضلاً عن أثرها في سلامة لغته، ورصانة
أساليبه، ومتانة تراكيبه! كما كان لتربيته الصوفية أعظم الأثر في روحانيته
وشفافيته العالية ، التي امتاز بها عن أقرانه من الأساتذة.
ديانته وأخلاقه :
كان الشيخ – رحمه الله – عبداً
ربانياً، صواماً، قواماً ، أوهاً ، تلاء للقرآن، كثير التدبير له ، وكان يختمه في
صلاته، كما كان له ورد يومى يحرص عليه لا يفوته، ولقد صحبته يوماً في سفره إلى
القاهرة، وهو يقرأ ورده في المصحف ، حتى أقبل الليل بظلامه، فمازال يدقق النظر في
المصحف على البصيص المتبقي من ضوء النهار،
حتى أنهى ورده! وكان الشيخ كثير التصدق في السر والعلن، يكثر من مساعدة الطلاب
الفقراء ، وكان زاهداً في المال غير حريص على جمعه، لا يبالي ما أتاه منه ولا ما
فقده.
وكان عظيم الأدب ، شديد الحياء ،
بعيداً عن العبارة الجارحة مع من يخاطبه، حريصاً على مراعاة مشاعر الناس ، لا يشعر
جليسه قط بأنه غير راغب في مجالسته، حتى ولو كان كذلك، وكان هادئاً ، حليماً ،
وقوراً، لا يستفزه الغضب ، وفيه مرح ودعابة ذكية – فقد كان ألمعياً متوقد الذهن –
غير منقبض ولا متجهم ، راض عن الله ، محب لعباده ، منبسط معهم، سهل الخليقة ، سليم
الصدر ، نقي القلب ، رقيق المشاعر ، رهيف الإحساس ، يسعى في حوائج الناس ، لا يرد
سائلاً سأله ، ولا داعياً دعاه، ولا طالب علم أو هداية قصده.
وكان شديد الغيرة على الحرمات، قوياً
في دينه ، سليماً في اعتقاده، مكثراً من النوافل، مدمناً للذكر والصلاة والسلام
على سيدنا رسول الله ، مكثراً من زيارته، مترضياً عن الآل والأصحاب والأولياء،
مكثراً من زيارتهم ، معظماً للجناب النبوي الأطهر.. غيوراً عليه من كل ما يخدش
كماله، أو يسقط هيبته وجلاله ، حتى إنه لم يكن راضياً عن المذهب الأصولي القائل
بجواز الخطأ في اجتهاده صلى الله عليه وسلم، ويراه من سوء الأدب ، وغير لائق بجلال
منصب النبوة! وكان يعتمر في رمضان من كل عام، ثم اعتمر في آخر عمره في رجب وشعبان،
وإنما كان يكثر من الاعتمار ، اقتباساً للأنوار، والتماساً للأسرار، وقصداً للقرب
من النبي المختار، وآل بيته الأطهار، وصحبه الأخيار، وكان يتوخى زيارة الإمام
الحسين في كل يوم اثنين، ويحكي في ذلك عن أهل الأذواق ما لا يمكن تسطيره في
الأوراق!
وكان كريماً مضيافاً، لاسيما في
المناسبات الدينية التي كان يفتح فيه بيته للناس، كالمولد الأحمدي ، وكانت تأتيه
الوفود لأخذ العهود، والتعرض للكرم والجود، وقد أخذ عليه العهد بعض الأكابر،
وتتلمذوا له في الطريق، وقبلوا يده – وبعضهم أسنُّ منه – اعتقاداً فيه، وتبركاً
به، ومن هؤلاء شيخنا العلامة الدكتور فتحى أبو عيسى، العميدان الأسبقان لكلية
اللغة العربية، وشيخنا الدكتور صفوت زيد أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية اللغة
العربية، والدكتور محمد عزت عبد المنصف العميد الأسبق لكلية العلوم بجامعة طنطا،
وكان ينظر إلى الموالد على أنها فيها الخير والشر ؛ فالخير ينبغي الإبقاء عليه،
والشر تجب مقاومته، وكان ينكر على الصوفية وقوعهم في البدع والمنكرات، وتهاونهم في
أداء العادات !
وكان متواضعاً مع اعتزاز ، ويوقع كتبه
بالفقير إلى الله تعالى ، وكان يقول : لقب الشيخ أحب إليَّ من لقب الدكتور !
وكان غيوراً على الأزهر ، معتزاً به
وبعلمائه، حزينا على ما وصل إليه حاله من الضعف، وكان كثيراً ما يتمثل بالعبارة
المشهورة: "لا علم إلا أزهري، ولا قرآن إلا أحمدى"! وقد حزن حزناً
شديداً حينما تعثرت خطوات إنشاء كلية القرآن الكريم فترة من الزمن، وكنت كثيراً ما
أراه مهموماً حزيناً على غير عادته في ذلك الوقت !
وكان الشيخ – رحمه الله – بهي الطلعة،
جميل المنظر ، مشرق الوجه، منفرج الأسارير، تبدو عليه آثار نعمة الله – عز وجل –
حساً ومعنى!
وقد شرفت بصحبته عشرين سنة، وكنت
أرافقه في سفره كثيراً، وقد أرفقني شقته في حي سيدنا الحسين بالقاهرة، حينما كنت
طالباً في الدراسات العليا ، تفضلاً منه وكرماً ودعا لي غير مرة ، وبشرني بما
يسرني ، وقرظ لي كتبي ، وأثنى عليَّ بما
أخجل منه، ولازال يحبوني ويتحفني حتى دعاه الداعي، ونعاه الناعى ، فلحق بالرفيق
الأعلى، وتبوأ المكان الأسمى ، رحم الله شيخنا الدكتور جودة ، وأنزله المقعد
المقرب عنده:
"مع الذين أنعم الله عليهم من
النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا:". (النساء : 69)