(أصل هذا المبحث هو مقدمة كتبتها لمجموع أوراد سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه ولكني لم أنشره في حينه وبقي عندي فأحببت نشره دفعاً لبعض الوسوسات والشبهات).
الحمد لله طُراً وانفرادا ،لا إله إلا هو إليه يؤول كلُّ أمرٍ مبدأً
ومعادا، سبحانه أثبت الوحدانية لنفسه ومحق الشرك أغياراً وأندادا، وهو العليم
القدير الحنان المنان المُفِيضُِ على قلوب العارفين من أسرار تحقيق السعادة أحزاباً وأورادا، فحَوَتْ من فضله تعالى ألطافاً
وإمدادا.
والصلاة والسلام على رحمة الله للعالمين ونعمته التي عمت السموات والأرضين،
بدر تمام الكمالات، ومنبع العطايا الإحسانيات، وِرْدِ كلِّ من ورد، وهادي كل من سلك وقصد،
صلاةً تستغرق العد وتحيط بالحد لا غاية لها ولا انتهاء ولا أمد، وعلى آله وصحبه
مثلك ذلك، ولله كلُّ الحمد.
وبعد:
فإن سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه سر من أسرار الله تعالى لا ينازع في ذلك
إلا مكابر محروم. وشهرته فضلٌ ربانيٌ محضٌ، إذِ السيد ما ترك كتاباً ولا كلاماً إلا النزر اليسير. وجُلُّ سيرته المدونة مما
وقع منه رضي الله عنه بعد حياته الأولى، مجموعة من الكرامات البرزخية لا الوقائع
الدنيوية التي عليها مدار التراجم.
وأبلغ ما قيل فيه رضي الله عنه ما ذكره سيدنا الإمام عبد الوهاب الشعراني رضي
الله عنه من أنه حدثت له جمعية على الحق استغرقته إلى الأبد!! فلم يكن للسيد رضي
الله عنه من نفسه شيء، فأعطاه الله كل شيء!!
فهو في متاجرته مع الله باع نفسه لله من أول نَفَس فأعطي من الفضل الإلهي
بمثل ما أَعطى من نفسه رضي الله تعالى عنه. وهذا مقام تتقاصر دونه أعناق المتطاولين.
هذا هو مقام سيدي أحمد بن علي البدوي بإجمال يندرج تحته كلُ تفصيل، وهو ما
نال منه العارفون كلٌّ بحسب ما أعطَى من نفسه لله. فهو إمام الأولياء وسلطان
الأصفياء. ولله درُّ العارف بالله سيدي سلامة الراضي إذ يقول:
هذا مقام السيد
البدوي الذي للأولياء مقامُه عرفاتُ
وقد اكتنه سيدي أحمد البدوي أسرار
كلام الله تعالى وتحقق بوراثة المصطفى صلى الله عليه وسلم في نطقه بجوامع الكلام
فأُذِن له أن تخرج هذه الكلمات النيرات التي هي مجموعة من الأوراد المباركات
والصلوات الشريفات من قلبه إلى لسانه، يتروح بها أحبابه المنتسبون إلى جنابه عله
يكون قائد زمرتهم في عرصات القيامة تحت لواء سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد عن لنا أن نثبت شيئاً من أدلة
اتخاذ الأوراد ندفع بها عن السادة الصوفية اعتراض المعترضين ونمكن للمحبين من
المداومة على هذا المجموع عن علم بأدلة اتخاذها من الشرع الشريف.
فنقول بفضل الله وتوفيقه، أما
مدار اعتراض المعترض فهو على أن الأصل في المعاملات الإباحة بينما الأصل في
العبادات التحريم، وبعضهم يشتط فيمنعُ اتخاذَ وردٍ من غير المأثور، ثم ينسبون
بعضاً من معاني هذه الأذكار الشريفة الواردة عن أكابر الصوفية للبدعة.
أما الاعتراض الأول فمدفوع من
وجوه، أولها أن هذه القاعدة ليست على إطلاقها إذ ثبت عن سلفنا الصالح تخصيص النفل
بغرض مع المداومة عليه مثلما وقع من سيدنا بلال رضي الله عنه إذ ورد في الحديث
الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في
الإسلام فإني سمعت دَفَّ- أي تحريك- نعليك بين يديَّ في الجنة. فقال ما عملت عملاً
أرجى أني لم أتطهر طهوراً في ساعة ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن
أصلي))، رواه الشيخان واللفظ للبخاري.
قال شيخ
الإسلام ابن حجر في ((فتح الباري)): ويستفاد
منه جواز الاجتهاد في توقيت العبادة ، لأنّ بلالًا توصّل إلى ما ذكرنا بالاستنباط
فصوّبه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم. انتهى. وقوله: صوبه أي أقره على
صوابه. ثم نقل عن المهلب رحمه الله قولَه:
وفيه سؤال الصالحين عما يهديهم الله له من الأعمال الصالحة ليقتدي بها غيرهم في
ذلك وفيه أيضًا سؤال الشيخ عن عمل تلميذه ليحضه عليه ويرغبه فيه إن كان حسنًا.
فانظر
قوله: سؤال الصالحين عما يهديهم الله له من الأعمال الصالحة، فإن الأوراد لا تخرج
عن هذا البتة.
ومنه ما رواه الأئمة الستة من حديث سيدنا رفاعة بن رافع
رضي الله عنه كنا يومًا نصلي وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رفع رسول
الله صلى الله عليه وسلم رأسه من الركعة وقال سمع الله لمن حمده قال رجلٌ وراءه
ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا
مباركًا فيه فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مَن المتكلم آنفًا فقال
الرجل أنا يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد رأيت بضعةً وثلاثين
ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبهن أول.
قال
شيخ الإسلام ابن حجر: واستدل به على جواز إحداث ذكر في
الصلاة غير مأثور إذا كان غير مخالف للمأثور. انتهى.
فإذا
جاز في الصلاة المكتوبة أن يحدث المصلي ذكراً مأثوراً إذا كان معناه غير مخالف
للمأثور أي بشرط ألا يكون هذا الذكر المحدث مصادماً لأحكام الشريعة كمن يدعو على
نفسه بالهلاك مثلاً، فكيف خارج الصلاة؟! وعليه فقاعدة التحريم في العبادات لا تشمل
الذكر سواء اقترن الذكر بعبادة مفروضة أم كان تطوعاً مطلقاً.
بل
قال ابن حجر رحمه الله: ( فائدة ) :
قيل الحكمة في اختصاص
العدد المذكور من الملائكة بهذا الذكر أن عدد حروفه مطابق للعدد المذكور ، فإن
البضع مع الثلاث إلى التسع وعدد الذكر المذكور ثلاثة وثلاثون حرفًا ، ويعكر على
هذا الزيادة المتقدمة في رواية رفاعة بن يحيى وهي قوله " مباركًا عليه كما
يحب ربنا ويرضى " بناء على أن القصة واحدة . ويمكن أن يقال : المتبادر إليه
هو الثناء الزائد على المعتاد وهو من قوله " حمدًا كثيرًا إلخ " دون قوله
" مباركًا عليه " فإنه كما تقدم للتأكيد وعدد ذلك سبعة وثلاثون حرفًا ،
وأما ما وقع عند مسلم من حديث أنس " لقد رأيت اثني عشر ملكًا يبتدرونها
" وفي حديث أبي أيوب عند الطبراني " ثلاثة عشر " فهو مطابق لعدد
الكلمات المذكورة في سياق رفاعة بن يحيى ولعددها أيضًا في سياق حديث الباب لكن على
اصطلاح النحاة ، والله أعلم . انتهى
فانظر هؤلاء الأئمة يروون هذه الفائدة في كتبهم والتي
فيها أن الله تعالى قيض للرجل بعدد حروف كلمه أو بعدد كلمه ملائكة تأكيداً
على رضا المولى سبحانه عن فعله رضي الله عنه.
ومما يعترض به المتنطعون أن هذه سنة تقريرية فهي من
الشارع صلى الله عليه وسلم بهذا الاعتبار. وهو اعتراض واه ويتوجه اعتراضهم إلى ما
ا استنبطه أئمة الدين أنفسهم قبل أن يتوجه إلينا نحن الصوفية، إذ التقرير لا يصير
تقريراً حتى يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون هؤلاء الصحابة - وحاشاهم-
متلبسين بالبدعة قبل هذا التقرير، بل ويكون شيوخ الإسلام كذلك يشرعون البدعة
للأمة.
ومما يأتي على بنيان اعتراضهم من القواعد ما ورد في قصة مصرع سيدنا خبيب بن عدي الأنصاري
رضي الله عنه على يد بني الحارث بن عامر بن نوفل وكان سيدنا خبيبٌ رضي الله عنه
قتل الحارث يوم بدر فلما هموا بقتله قال دعوني أصلي ركعتين، فصلى ركعتين. قال عبد
الرزاق في المصنف: فكان أول من سن ركعتين عند القتل هو. انتهى.
وفي الروايات بيتاه الشهيران المجيدان:
ولست أبالي حين أقتل
مسلماً على أي شق كان في الله
مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن
يشاء يبارك على أوصال شلو ممزع
وهنا ما ثمة تقرير من النبي صلى الله عليه وسلم، إذ قتل
سيدنا خبيب بعد أن صلى الركعتين مباشرة. فعن أي تقرير يتحدث المعترض؟ أم يجترئ على
هذا الصحابي البدري رضي الله عنه في عليين ويقول إنه مات متلبساً بالبدعة. سبحانك
هذا بهتان عظيم.
وورد عن الصحابة رضوان الله عليهم اتخاذ أدعية
والتزامها وتوقيتها بوقت، وهذه بالتمام هي الأوارد التي يعترض عليها أعداء الصوفية
من حزب الجحود والعناد، فقد روى ابن شيبة في مصنفه عن سيدنا سعيد بن جبير، قال:
كان من دعاء ابن عباس الذي لا يدع بين الركن والمقام أن يقول: اللهم قنعني بما رزقتني واخلف لي فيه واخلف
على كل غائبة لي بخير.
فهذا تخصيص لوقت ومكان بدعاء لم يرد عن النبي صلى الله
عليه وسلم ولم يقره! فكيف يكون اتخاذ صالح الدعاء بدعة؟ ألا إن المبتدع من خالف
هذه الأدلة القاطعة.
ثم يعترضون على اتخاذ الأعداد بلا حجة ولا بينة كذلك،
فالذكر عبادة مطلقة يأخذ منها من شاء ما شاء مراعياً وقته ومنظماً له. ودليله من
قول النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه أحمد وابن ماجة من حديث سيدنا أبي هريرة
((خير العمل أدومه وإن قل)). وهو في صحيح البخاري بلفظ (( أحب الأعمال إلى الله
أدومها)).
فضبط العدد من المداومة وهو خير من عدم ضبط العدد بخلاف ما يزعم المتنطعة،
وهذا نص في محل النزاع، وقد قال العلماء: الشرط في المداومة على غير المأثور ألا
يعتقد أن هذا سنة فيكون بتركه مخالفاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال العلامة المناوي في فيض القدير بشرح الجامع الصغير:
المراد بالدوام: العرفي؛ وهو قابِل للكثرة أو القلة. ((وإن قل)) ذلك العمل
المُداومُ عليه جدًا، لأن النفس تألفه فيدوم بسببه الإقبال على الحق تقدس، ولأن
تارك العمل بعد الشروع كالمعرض بعد الوصل، ولأن المواظب ملازمٌ للخدمة، وليس من
لازَمَ البابَ كمن جدَّ ثم انقطع عن الأعتاب.
ولهذا قال بعض الأنجاب : "ولا تقطع الخدمة وإن ظهر لك عدم القبول وكفى
بك شرفا أن يقيمك في خدمته ". ولأن المداوم يدوم له الإمداد من حضرة رب
العباد. ولذلك شدد الصوفية النكير على ترك الأوراد.
وفيه فضيلة الدوام على العمل ورأفة المصطفى صلى الله عليه وسلم بأمته حيث
أرشدهم إلى ما يصلحهم وهو ما يمكنهم الدوام عليه بلا مشقة لأن النفس فيه أنشط وبه
يحصل مقصود العمل وهو الحضور ، هذا عصارة ما قيل في توجيه الدوام في هذا المقام.
انتهى
ومنه من فعل سلفنا الصالح ما ورد عن سيدنا أبي هريرة من أنه كان له حبل فيه
ألفا عقدة يذكر الله به. وهذا حجة في اتخاذ السبحة كذلك،ى خلافاً لمن قال ببدعيته
من الوهابية.
ومنه ما رواه الترمذي عن السيدة صفية رضي الله عنها دخل
علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يدي أربعة آلاف نواة أسبح بها فقال لقد
سبحت بهذه ألا أعلمك بأكثر مما سبحت به فقلت بلى علمني فقال قولي سبحان الله عدد
خلقه. وبنحوه الحاكم في مستدركه وصححه وقال: له شاهد من حديث المصريين بإسناد أصح
من هذا.
فالنبي صلى الله عليها وسلم أرشد السيدة صفية رضي الله عنها لما هو أيسر
لما شاهده من شدة إقبالها على العبادة وشدة اعتنائها بكثرة الذكر، ولكنه لم يرد
عليها فعلها ولم ينهها صلى الله عليه وسلم عنه، فلو أخذت بجوامع الأذكار التي
علمها النبي صلى الله عليه وسلم إياها مع الإكثار لتم لها الخير من الوجهين وليس
بعد قوله تعالى ((واذكروا الله كثيراً)) من كلام في صحة فعلها.
ومنه ما ورد عن أبي بكر الكتاني
(322هـ) من أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في رؤيا منامية فقال له ادع الله أن لا يميت قلبي، فقال: قل كل يوم أربعين مرة " يا حي، يا
قيوم، لا إله إلا أنت " فإن الله يحيي قلبك.
وقال ابن
القيم في مدارج السالكين (3/264): ((وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول :
من واظب على ( يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت) كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر
أربعين مرة أحيى الله بها قلبه.
فاتخاذ الأوراد من جنس فعل هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم، وأكابر الأولياء
هم أشبه الناس بالصحابة فعلاً وخُلُقاً، بدليل تلك الكرامات المتواترة التي ما
ينكرها إلا من أعمى الله قلبه، التي وقعت من سيدنا خبيب نفسه، ففي الرواية عن بنت
الحارث قولها: لقد رأيته يأكل من قطف عنب ، وما بمكة يومئذ ثمرة ، وإنه لموثق في
الحديد ، وما كان إلا رزق رزقه الله إياه. انتهى. والحديث في صحيح البخاري برواية
مختصرة فيها الأبيات، وهي عبد الرزاق في المصنف كما مر، وكذا رواها الطبراني في
الكبير وابن حبان في الصحيح وأبو نعيم في معرفة الصحابة.