الخميس، 29 مارس 2012

السلفيون والادعاء الكاذب




لماذا السلفية مذهب مفلس؟

قبل أن أجيب على السؤال أود الاعتذار لمن قد يصدمه كلامي ولكن لعله يقرأ بعقل واع وقلب مفتوح فيعذرني إن لم يجد في كلامي ما يحمله على تغيير رأيه أو إعادة النظر فيه. هذا مع أنني لم أقصد أن تكون هذه المقالة جامعة أو حاوية لكل ما يمكن أن أقوله في هذا الصدد

بداية نوضح لمن لا يعرفون الأمور معرفة كافية أن ليس كل انتساب لأمر محمود يثبت صحة الانتساب، فليست نسبة السلفيين إلى السلف تعني صحة نسبتهم إلى السلف، وليس انتساب الشيعة إلى سيدنا علي بن أبي طالب تعني صحة نسبتهم إليه. وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم في وصف الخوارج أن ظواهرهم أشد التزاما بالواجبات الشرعية من الصحابة أنفسهم فقال صلى الله عليه وسلم "تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم" بمعنى أن الصحابي قد ينظر في صلاته وهي بالقطع أجود وأرجى للقبول عند الله من صلاة الخارجي ثم ينظر في صلاة الخارجي فيحتقر صلاته بالمقارنة مع صلاة الخارجي.

هذا مبدأ مؤسس لطريقة تعامل المسلم مع من هو في ظاهره أشد التزاما بالأوامر الشرعية فليس كل التزام ظاهر يقتضي التزاما باطنا، وقد قال تعالى "وذروا ظاهر الاثم وباطنه". ومع أننا قد نكون مقصرين في التزام بعض المظاهر الإسلامية فلا يستتبع ذلك منا أن نسلم عقولنا لأناس يستنكف كثير منهم أن يطلق لفظ السيادة في حق النبي متشبهين بالخوارج الذين سووا أنفسهم بصحابة النبي صلى الله عليه وسلم بل وفضلوا أنفسهم عليهم انخداعا بأعمالهم، ولن نسلم عقولنا لأناس يقتاتون من موائد التصوف في دروسهم ثم ينكرون على الصوفية جملة وتفصيلا (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها).

ولن نسلم عقولنا لأناس أخذوا في تحطيم الروح الدينية التقليدية لشعب مصر عبر قرن من الزمان بمعاول الهدم والتشويه وتزوير الحقائق تزويرا صارخاً وسعوا في اغتيال تاريخ وسير كبار الأولياء كالسيد أحمد البدوي والسيد إبراهيم الدسوقي والإمام الشعراني كما اغتال عبد الرحمن بن ملجم الخارجي سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وسعى أصحابه في اغتيال سيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، ويحرمون زيارة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعون القرب من النبي والتزامهم بسنته ويظنون أن شيئا من القرب من جناب النبي صلى الله عليه وسلم يُنال بجفاء سيدنا الحسين بن علي حبيب النبي صلى الله عليه وسلم أو السيدة زينب رضي الله عنها أو عقبة بن عامر الجهني البدري رضي الله عنه فضلا عن بقية آل البيت والصحابة المدفونين فلي مصر.

طيب أنتم تعلمون أن أبا مسلم الخولاني أدخله الأسود العنسي في النار فلم تؤذه، وأن صلة بن أشيم العدوي دعا على رجل فمات في مكانه، وأن سعيد بن المسيب كان يسمع الأذان من قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأن هذه الأمور ظهرت وعرفت في عصر السلف الصالح. كما تعلمون أن من ادعى نسبة فعليه البينة في ادعائه، فإن هذه الأمور الخارقة التي روى ابن رجب الحنبلي السلفي كثيرا منها في كتابه جامع العلوم والحكم صارت كالقانون للسلف الصالح رضي الله عنهم. ونحن نعلم قطعاً أن شيئا من هذا لم يظهر فيكم، وأن أشياء من هذا كانت شائعة بين الإخوان المسلمين في أجيالهم الأولى التي كانت أجيالاً حريصة على تصوفها وعلى محبة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وعلى التزام أوراد الشاذلية وربما غيرها من الأوراد الصوفية.

ولما كانت الكرامة تعريفاً هي خارقة يظهرها الله على من يشاء من عباده تأييداً له في دعوة صلاحه، ولما كان وفاضكم خاليا منها ومما هو أعلى منها، فقد علمنا من هذا خطأَ نسبتكم إلى سلفنا الصالح وأن الله تعالى أعراكم مما كساهم به من حلل الكرامة والتأييد.

ولما كان الأمر هكذا علمنا أن طريق الصلاح ليس طريقكم، وأن محبة الله شيء غير ما تدَّعون، وأن القرب من النبي صلى الله عليه شيء غير ما تتوهمون وأنكم إذا أصبتم منه قدرا فلم تصيبوا منه إلا مظاهره

لذا حذرنا الناس من الانخداع بكم فيصيروا كمن طال عليهم الأمد فقست قلوبهم لافتقادهم المعنى الحقيقي للصلاح وتوارى معنى التقوى وضيعه العامة بفعل انخداعهم بهؤلاء الأدعياء، وانمحقت البركة من حياة الناس ومن أرزاقهم ومن دينهم. (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد). والسلام على أهل القلوب والأفهام

السبت، 24 مارس 2012

القول المبرور في جواز اتخاذ الورد من غير المأثور

(أصل هذا المبحث هو مقدمة كتبتها لمجموع أوراد سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه ولكني لم أنشره في حينه وبقي عندي فأحببت نشره دفعاً لبعض الوسوسات والشبهات).

الحمد لله طُراً وانفرادا ،لا إله إلا هو إليه يؤول كلُّ أمرٍ مبدأً ومعادا، سبحانه أثبت الوحدانية لنفسه ومحق الشرك أغياراً وأندادا، وهو العليم القدير الحنان المنان المُفِيضُِ على قلوب العارفين من أسرار تحقيق السعادة  أحزاباً وأورادا، فحَوَتْ من فضله تعالى ألطافاً وإمدادا.
والصلاة والسلام على رحمة الله للعالمين ونعمته التي عمت السموات والأرضين، بدر تمام الكمالات، ومنبع العطايا الإحسانيات، وِرْدِ كلِّ من ورد، وهادي كل من سلك وقصد، صلاةً تستغرق العد وتحيط بالحد لا غاية لها ولا انتهاء ولا أمد، وعلى آله وصحبه مثلك ذلك، ولله كلُّ الحمد.
وبعد:
فإن سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه سر من أسرار الله تعالى لا ينازع في ذلك إلا مكابر محروم. وشهرته فضلٌ ربانيٌ محضٌ، إذِ السيد ما ترك كتاباً ولا  كلاماً إلا النزر اليسير. وجُلُّ سيرته المدونة مما وقع منه رضي الله عنه بعد حياته الأولى، مجموعة من الكرامات البرزخية لا الوقائع الدنيوية التي عليها مدار التراجم.
وأبلغ ما قيل فيه رضي الله عنه ما ذكره سيدنا الإمام عبد الوهاب الشعراني رضي الله عنه من أنه حدثت له جمعية على الحق استغرقته إلى الأبد!! فلم يكن للسيد رضي الله عنه من نفسه شيء، فأعطاه الله كل شيء!!
فهو في متاجرته مع الله باع نفسه لله من أول نَفَس فأعطي من الفضل الإلهي بمثل ما أَعطى من نفسه رضي الله تعالى عنه. وهذا مقام تتقاصر دونه أعناق المتطاولين.
هذا هو مقام سيدي أحمد بن علي البدوي بإجمال يندرج تحته كلُ تفصيل، وهو ما نال منه العارفون كلٌّ بحسب ما أعطَى من نفسه لله. فهو إمام الأولياء وسلطان الأصفياء. ولله درُّ العارف بالله سيدي سلامة الراضي إذ يقول:
هذا مقام السيد البدوي الذي                  للأولياء مقامُه عرفاتُ

                وقد اكتنه سيدي أحمد البدوي أسرار كلام الله تعالى وتحقق بوراثة المصطفى صلى الله عليه وسلم في نطقه بجوامع الكلام فأُذِن له أن تخرج هذه الكلمات النيرات التي هي مجموعة من الأوراد المباركات والصلوات الشريفات من قلبه إلى لسانه، يتروح بها أحبابه المنتسبون إلى جنابه عله يكون قائد زمرتهم في عرصات القيامة تحت لواء سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم.
                وقد عن لنا أن نثبت شيئاً من أدلة اتخاذ الأوراد ندفع بها عن السادة الصوفية اعتراض المعترضين ونمكن للمحبين من المداومة على هذا المجموع عن علم بأدلة اتخاذها من الشرع الشريف.
                فنقول بفضل الله وتوفيقه، أما مدار اعتراض المعترض فهو على أن الأصل في المعاملات الإباحة بينما الأصل في العبادات التحريم، وبعضهم يشتط فيمنعُ اتخاذَ وردٍ من غير المأثور، ثم ينسبون بعضاً من معاني هذه الأذكار الشريفة الواردة عن أكابر الصوفية للبدعة.
                أما الاعتراض الأول فمدفوع من وجوه، أولها أن هذه القاعدة ليست على إطلاقها إذ ثبت عن سلفنا الصالح تخصيص النفل بغرض مع المداومة عليه مثلما وقع من سيدنا بلال رضي الله عنه إذ ورد في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دَفَّ- أي تحريك- نعليك بين يديَّ في الجنة. فقال ما عملت عملاً أرجى أني لم أتطهر طهوراً في ساعة ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي))، رواه الشيخان واللفظ للبخاري.

قال شيخ الإسلام ابن حجر في ((فتح الباري)): ويستفاد منه جواز الاجتهاد في توقيت العبادة ، لأنّ بلالًا توصّل إلى ما ذكرنا بالاستنباط فصوّبه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم. انتهى. وقوله: صوبه أي أقره على صوابه.  ثم نقل عن المهلب رحمه الله قولَه: وفيه سؤال الصالحين عما يهديهم الله له من الأعمال الصالحة ليقتدي بها غيرهم في ذلك وفيه أيضًا سؤال الشيخ عن عمل تلميذه ليحضه عليه ويرغبه فيه إن كان حسنًا.
                فانظر قوله: سؤال الصالحين عما يهديهم الله له من الأعمال الصالحة، فإن الأوراد لا تخرج عن هذا البتة.
                ومنه ما رواه الأئمة الستة من حديث سيدنا رفاعة بن رافع رضي الله عنه كنا يومًا نصلي وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من الركعة وقال سمع الله لمن حمده قال رجلٌ وراءه ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مَن المتكلم آنفًا فقال الرجل أنا يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد رأيت بضعةً وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبهن أول.
                قال شيخ الإسلام ابن حجر: واستدل به على جواز إحداث ذكر في الصلاة غير مأثور إذا كان غير مخالف للمأثور. انتهى.
فإذا جاز في الصلاة المكتوبة أن يحدث المصلي ذكراً مأثوراً إذا كان معناه غير مخالف للمأثور أي بشرط ألا يكون هذا الذكر المحدث مصادماً لأحكام الشريعة كمن يدعو على نفسه بالهلاك مثلاً، فكيف خارج الصلاة؟! وعليه فقاعدة التحريم في العبادات لا تشمل الذكر سواء اقترن الذكر بعبادة مفروضة أم كان تطوعاً مطلقاً.
                بل قال ابن حجر رحمه الله: ( فائدة ) :
قيل الحكمة في اختصاص العدد المذكور من الملائكة بهذا الذكر أن عدد حروفه مطابق للعدد المذكور ، فإن البضع مع الثلاث إلى التسع وعدد الذكر المذكور ثلاثة وثلاثون حرفًا ، ويعكر على هذا الزيادة المتقدمة في رواية رفاعة بن يحيى وهي قوله " مباركًا عليه كما يحب ربنا ويرضى " بناء على أن القصة واحدة . ويمكن أن يقال : المتبادر إليه هو الثناء الزائد على المعتاد وهو من قوله " حمدًا كثيرًا إلخ " دون قوله " مباركًا عليه " فإنه كما تقدم للتأكيد وعدد ذلك سبعة وثلاثون حرفًا ، وأما ما وقع عند مسلم من حديث أنس " لقد رأيت اثني عشر ملكًا يبتدرونها " وفي حديث أبي أيوب عند الطبراني " ثلاثة عشر " فهو مطابق لعدد الكلمات المذكورة في سياق رفاعة بن يحيى ولعددها أيضًا في سياق حديث الباب لكن على اصطلاح النحاة ، والله أعلم . انتهى
                فانظر هؤلاء الأئمة يروون هذه الفائدة في كتبهم والتي فيها أن الله تعالى قيض للرجل  بعدد حروف كلمه أو بعدد كلمه ملائكة تأكيداً على رضا المولى سبحانه عن فعله رضي الله عنه.
                ومما يعترض به المتنطعون أن هذه سنة تقريرية فهي من الشارع صلى الله عليه وسلم بهذا الاعتبار. وهو اعتراض واه ويتوجه اعتراضهم إلى ما ا استنبطه أئمة الدين أنفسهم قبل أن يتوجه إلينا نحن الصوفية، إذ التقرير لا يصير تقريراً حتى يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون هؤلاء الصحابة - وحاشاهم- متلبسين بالبدعة قبل هذا التقرير، بل ويكون شيوخ الإسلام كذلك يشرعون البدعة للأمة.
                ومما يأتي على بنيان اعتراضهم من القواعد  ما ورد في قصة مصرع سيدنا خبيب بن عدي الأنصاري رضي الله عنه على يد بني الحارث بن عامر بن نوفل وكان سيدنا خبيبٌ رضي الله عنه قتل الحارث يوم بدر فلما هموا بقتله قال دعوني أصلي ركعتين، فصلى ركعتين. قال عبد الرزاق في المصنف: فكان أول من سن ركعتين عند القتل هو. انتهى.
                وفي الروايات بيتاه الشهيران المجيدان:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً           على أي شق كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشاء        يبارك على أوصال شلو ممزع

                وهنا ما ثمة تقرير من النبي صلى الله عليه وسلم، إذ قتل سيدنا خبيب بعد أن صلى الركعتين مباشرة. فعن أي تقرير يتحدث المعترض؟ أم يجترئ على هذا الصحابي البدري رضي الله عنه في عليين ويقول إنه مات متلبساً بالبدعة. سبحانك هذا بهتان عظيم.

                وورد عن الصحابة رضوان الله عليهم اتخاذ أدعية والتزامها وتوقيتها بوقت، وهذه بالتمام هي الأوارد التي يعترض عليها أعداء الصوفية من حزب الجحود والعناد، فقد روى ابن شيبة في مصنفه عن سيدنا سعيد بن جبير، قال: كان من دعاء ابن عباس الذي لا يدع بين الركن والمقام أن يقول: اللهم قنعني بما رزقتني واخلف لي فيه واخلف على كل غائبة لي بخير.
                فهذا تخصيص لوقت ومكان بدعاء لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقره! فكيف يكون اتخاذ صالح الدعاء بدعة؟ ألا إن المبتدع من خالف هذه الأدلة القاطعة.
                ثم يعترضون على اتخاذ الأعداد بلا حجة ولا بينة كذلك، فالذكر عبادة مطلقة يأخذ منها من شاء ما شاء مراعياً وقته ومنظماً له. ودليله من قول النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه أحمد وابن ماجة من حديث سيدنا أبي هريرة ((خير العمل أدومه وإن قل)). وهو في صحيح البخاري بلفظ (( أحب الأعمال إلى الله أدومها)).
فضبط العدد من المداومة وهو خير من عدم ضبط العدد بخلاف ما يزعم المتنطعة، وهذا نص في محل النزاع، وقد قال العلماء: الشرط في المداومة على غير المأثور ألا يعتقد أن هذا سنة فيكون بتركه مخالفاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال العلامة المناوي في فيض القدير بشرح الجامع الصغير:
المراد بالدوام: العرفي؛ وهو قابِل للكثرة أو القلة. ((وإن قل)) ذلك العمل المُداومُ عليه جدًا، لأن النفس تألفه فيدوم بسببه الإقبال على الحق تقدس، ولأن تارك العمل بعد الشروع كالمعرض بعد الوصل، ولأن المواظب ملازمٌ للخدمة، وليس من لازَمَ البابَ كمن جدَّ ثم انقطع عن الأعتاب.
ولهذا قال بعض الأنجاب : "ولا تقطع الخدمة وإن ظهر لك عدم القبول وكفى بك شرفا أن يقيمك في خدمته ". ولأن المداوم يدوم له الإمداد من حضرة رب العباد. ولذلك شدد الصوفية النكير على ترك الأوراد.
وفيه فضيلة الدوام على العمل ورأفة المصطفى صلى الله عليه وسلم بأمته حيث أرشدهم إلى ما يصلحهم وهو ما يمكنهم الدوام عليه بلا مشقة لأن النفس فيه أنشط وبه يحصل مقصود العمل وهو الحضور ، هذا عصارة ما قيل في توجيه الدوام في هذا المقام. انتهى
            ومنه من فعل سلفنا الصالح ما ورد عن سيدنا أبي هريرة من أنه كان له حبل فيه ألفا عقدة يذكر الله به. وهذا حجة في اتخاذ السبحة كذلك،ى خلافاً لمن قال ببدعيته من الوهابية.
                ومنه ما رواه الترمذي عن السيدة صفية رضي الله عنها دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يدي أربعة آلاف نواة أسبح بها فقال لقد سبحت بهذه ألا أعلمك بأكثر مما سبحت به فقلت بلى علمني فقال قولي سبحان الله عدد خلقه. وبنحوه الحاكم في مستدركه وصححه وقال: له شاهد من حديث المصريين بإسناد أصح من هذا.
فالنبي صلى الله عليها وسلم أرشد السيدة صفية رضي الله عنها لما هو أيسر لما شاهده من شدة إقبالها على العبادة وشدة اعتنائها بكثرة الذكر، ولكنه لم يرد عليها فعلها ولم ينهها صلى الله عليه وسلم عنه، فلو أخذت بجوامع الأذكار التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم إياها مع الإكثار لتم لها الخير من الوجهين وليس بعد قوله تعالى ((واذكروا الله كثيراً)) من كلام في صحة فعلها.

 ومنه ما ورد عن أبي بكر الكتاني (322هـ) من أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في رؤيا منامية فقال له ادع الله أن لا يميت قلبي، فقال: قل كل يوم أربعين مرة " يا حي، يا قيوم، لا إله إلا أنت " فإن الله يحيي قلبك.

وقال ابن القيم في مدارج السالكين (3/264): ((وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول : من واظب على ( يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت) كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر أربعين مرة أحيى الله بها قلبه.
فاتخاذ الأوراد من جنس فعل هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم، وأكابر الأولياء هم أشبه الناس بالصحابة فعلاً وخُلُقاً، بدليل تلك الكرامات المتواترة التي ما ينكرها إلا من أعمى الله قلبه، التي وقعت من سيدنا خبيب نفسه، ففي الرواية عن بنت الحارث قولها: لقد رأيته يأكل من قطف عنب ، وما بمكة يومئذ ثمرة ، وإنه لموثق في الحديد ، وما كان إلا رزق رزقه الله إياه. انتهى. والحديث في صحيح البخاري برواية مختصرة فيها الأبيات، وهي عبد الرزاق في المصنف كما مر، وكذا رواها الطبراني في الكبير وابن حبان في الصحيح وأبو نعيم في معرفة الصحابة.

الخميس، 1 مارس 2012

فراتٌ صار أجاجا



تبدلت الكلمات

حروفها الشوهاء وقفت
مقلوبة على رؤوسها
تحكي حكي الفرات الذي
صار أجاجاً

صِبْية تصطرخ على مقاعد مجد كاذب
صدور خالية من يقين سوى
ما استوت عليه أنا الجموح


"المجدُ للثورة"
                                     هل تصنع الثورة نفسها؟


أم صنعتموها بالصراخ؟ وماذا
لو استحال نصرها مقتلة
تدمي القلوب آجالاً
كما سحقت مدائن الورد
بفعل الغاشمين؟

أأنتم أنجحتموها؟
أم نحن المنجحون؟

ليس التاريخ صراعاً
بين الملاك والعاملين
بين الذكر والأنثى
بين الدين والدين

التاريخ اعتصار الشباب للشيوخ
ووأدُ الشيوخِ
للشباب الجامحين.

28 يوليو 2011

الثلاثاء، 28 فبراير 2012

عند العارف ابن الفارض

كنت معتقدا لسيدي عمر بن الفارض الشاعر الصوفي الكبير رضي الله عنه دون تعلق كبير، لأنني شربت من معين مكتوبات الإمام السرهندي التي توجد في القلب سداً أمام مقالات أهل الوحدة، ومر على دخولي طريق التصوف نحو خمسة عشر عاماً لم أزره فيها رغم أن مقامه قريب بسفح المقطم.

 ثم أرادنا رضي الله عنه عنده فحدث أنني كنت نازلا من عند شيخي ووقفت أنتظر تاكسيا لأن سيارتي لم تكن معي في ذلك اليوم. فوقفت في الشارع أنتظر ووضعت حقيبتي وفيها الحاسب المحمول على أحد السيارات الواقفة أمام بنك القاهرة بشارع بورسعيد ثم جاء التاكسي  ونسيت الحقيبة وركبت، ثم وصلت البيت وتذكرت أمر الحقيبة فرجعت إلى المكان مرة أخرى وأنا في غاية التوتر والخشية أن يضيع الجهاز بما عليه من ملفات وصور مخطوطات. وذهبت لقسم السيادة زينب وعملت محضراً بضياع الشنطة لعله أحداً يهتدي إليها ويعيدها.

 وفي اليوم التالي فوجئت برسالة على المحمول من إحدى  الخريجات تخبرني بأن بعض الناس وجدوا الحقيبة وسألوها عمن يملكها حيث وجدوا رقم هاتفها على الكشكول الذي كان داخل الحقيبة. فاتصلتُ بالسيدة التي وجدت الحقيبة على الفور، فإذا بهم جيران لابن الفارض قدس الله سره فانتهزت الفرصة وسرت من عند بيت الناس الذين عثروا على الحقيبة إلى مقامه ثم دخلت لصلاة الظهر ثم جلست أمامه للزيارة وبدأت بقرآة سورة ياسين وإذا بروحانية عجيبة تعتريني فلا أستطيع أن أغادر المكان بعد قراءة السورة فدخلت في ذكر آخر وظللت مشدودا لمقامه الشريف لا أستطيع أن أقوم نصف ساعة كاملة ومرافقي ينتظرني في السيارة وما كان في حسباني أن أبقى عنده أكثر من عشر دقائق. وحاولت أن أحافظ على تحشمي بصعوبة فقد تواجدت تواجداً عجيبا وبلا انقطاع وبلا أي تعمد،  فياله من مقام كريم.

لولا الهوى لم ترق دمعاً على طلل
ولا أرِقتَ لذكر البان والعلم

وفي هذا اليوم وصلت لمقام إخوة سيدنا يوسف عليه يوسف وهو مهجور في سفح جبل المقطم.

هذا سفرنا في النفس وصولا للقلب وهو السفر الحقيقي، وسفرنا في الأرض لمقامات الأولياء هو سفر في الأفق، وسير الأفق هو الظاهر وسير النفس هو الباطن والمقصود. ولا أشعر بهذا الشعور إلا إذا زرت أقطاب الريف كالسيد سليم المسلمي في الشرقية والسيد محمد بن الفضل بن العباس بن عبد المطلب في مدينة الشهداء بالمنوفية، فعند وصولي لمقاماتهم أشعر أنني وصلت لقلبي، لأن طول الطريق يحدث تزكية بالتعب لأنه نوع من الجهاد والسياحة في الأرض وقطع العلاق بما فيها علاقة هذا الحاسوب!!

الأربعاء، 15 فبراير 2012

بقاء وموت

وقعات أقدام أخرى
دقات قلوب أخرى
سوف تألفُ هذا الأديم
حين تخبو منا الوجوه
وتصيرُ إلى السديم.

ألوانٌ من الشعور
حب، كره، حبور
سوف تنطق بها العيون
حين نني عن المسير:
تتمثلُ في غرور 
وهْمَ تجددنا الحرون

صدى بعيدٌ يتردد سرمدا،
في أثير المدى السحيق
يحمل نطقنا الرخيم
بكلمات اليقين والانكسار
حين نخبو بلا بريق.

نسيحُ في الأكوان
نراها ولا ترانا
نمضي كلاماً بلا صوت،
معنىً يسري في أفنية المكان
يعلو على كُنْهِ البقاء والموت.

الخميس، 9 فبراير 2012

أي لغة أكتب؟

أي لغة أكتب
حين يبقى من الكلام ضجيجُه
ويمسي أنواءَ صخْبٍ
لا تميزُه الأذن
يذر الحقيقة في العراء كسيحة
تذوي وتُحتضر بلا وطن؟

أي معنى يخرجُ
من بين فرث الهرج ودم الافتتان؟

يتولد المعنى
من قدر اتفاق على
ما يقال وما
يستقذر قوله
وحين تضيع معالم الافتراق
يتعذر الكلام.
قِبلةُ المعنى إذا سقطت قدسيتها
انفك عن وتد اللفظ قاربُ المعنى
كما ينفك عن وتد الصلابة
مبحرا في يَمِّ السيولة
فالموج، فاللطف أو الجلال
يتصرف في القارب
إلى أرض الرجا أو هاوية التباب
ليموت المعنى بلا لفظ، بلا صوت
بلا التئام.

هذا الإلحاد
هو عين افتقاد الدوالَّ عصمتها
من تهاوي المدلولات

لا يستوي النقيض والنقيض
فإذا استويا
هاج القريض
وربما
مات القريض.

ومن الفجوات تولد الأشعار
فجواتِ الأسى أو أخاديدِ الانتصار
حيث يختل السكون وتتداعى العبارات.





السبت، 4 فبراير 2012

القاتل أنت

قلبت عن معنى همو
في قول من يرجو العنا
"هم تمادوا في الحريق"
"هم يريدون الفنا"
"هم" يقتلون الشباب".

كانت "همو" جيشاً وأمْناً والرحى
أنا وسائر أسرتي!
شركاء في صنع المذبحة؟!
هذا الهراء بعينه
كان التدني مسرحَه.

قلبت عن معناهمو
الهاء هدر للعقول
والميم موت لا يزول
الهاء هذا العسكري
أراه يسجد للصلاة
وجوعاً صياماً تراه
وينهي بحمد الإله
طعاما تلقطه يداه.

الميم منا واحد
يقضي الليالي صامدا
للبأس حين الاشتداد
الميم موت للضمير
ومد لأصوات النفير
هذا لعمري منتهاه

كانت همو دما نطقتَ لتسفحه
كانت همو مرسوم نشر المذبحة

ليت "الهمو" كانت "أنا"
أنت الصقيل الغائل
أنت القتيل القاتلُ
فيدي تخلو من دماء
وفمي مغسول بماء
عن فعل ما يدني القضاء.

الحق أمنحه إليك
والنور أتركه لديك
أنتا همو أنتا همو.

الثلاثاء، 24 يناير 2012

ترجمة شيخي العارف بالله سيدي جودة محمد أبو اليزيد المهدي رضي الله عنه


من أعلام الأزهر الشريف
الأستاذ الدكتور جودة محمد أبو اليزيد المهدي
عضو مجمع البحوث ونائب رئيس جامعة الأزهر
بقلم تلميذه
الدكتور / محمد إبراهيم العشماوي
مدرس الحديث الشريف بكلية أصول الدين
في زمن كثر فيه المتلونون بحثاً عن منفعة، أو فراراً من مضرة، رحل عن عالم الضجيج – في صمت – الطود الراسخ، والجبل الأشم الشامخ، قدوة الثابتين على المبدأ، العلامة الجهبذ المحقق الناقد علم المفسرين وشيخ الصوفية المحب الوله العارف الأستاذ الدكتور جودة محمد أبو اليزيد المهدى، حيث فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها: مساء يوم الخميس 22/11/1433هـ ، الموافق 20/10/2011م. عن عمر يناهز سبعة وستين عاماً، وذل إثر أزمات قلبية متكررة، نقل على أثرها إلى المستشفى الجامعي بطنطا حيث وافته المنية وصلى عليه بالمسجد الأحمدي، وشيعت جنازته في موكب مهيب عقب صلاة الجمعة، ووسد جثمانه الثرى في جوار والده الشيخ محمد أبي اليزيد، بضريحه في مقابر طنطا.
مولده ونشأته:
ولد شيخنا رحمه الله في 7/4/1944م في قرية العزيزية التابعة لمركز منيا القمح بمحافظة الشرقية ، لأبوين شريفين يتصل نسبهما بالنسب النبوي المبارك، وكان وحيد أبويه، فتوجهت عنايتهما إليه، وتوفرت همتهما عليه ، حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، ثم انتقل مع أسرته إلى مدينة طنطا، حيث التحق بالمعهد الأحمدى (الجامع)، شقيق الجامع الأزهر، كما يسميه المؤرخ الدكتور مجاهد الجندى.
وقد نشأ الشيخ نشأة صوفية خالصة في بيت ولاية وعلم، فأبوه هو الشيخ محمد أبو اليزيد، كان رجلاً صالحاً معتقداً من العامة ، وله كرامات ظاهرة ، كان يجاور بالمقام الأحمدى ، وأخبرني شيخنا – رحمه الله – أن الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود كان يقصده للزيارة والتبرك في بيته في طنطا، وهو يومئذ شيخ للأزهر! وجده لأمه الشيخ جودة إبراهيم – الذي سمى باسمه تيمنا – أحد الأولياء المذكورين في مدينة منيا القمح ، وله مقام يزار، ويحتفل به في كل عام، وقد ترجم له شيخنا في كتابه "النفحات الجودية في مناقب وأوراد الطريقة النقشبندية"، ورفع قدره، وفخم أمره، وذكر له كرامات باهرة وخوارق عجيبة، وقد كان الشيخ متيماً به، حريصاً على زيارته، حتى أنه ظل يسافر من طنطا إلى منيا القمح زمناً طويلاً؛ لأداء خطبة الجمعة وإلقاء الدروس بمسجد جده هذا.
نشأ الشيخ في تلك البيئة الصوفية العريقة، فلا جرم أشرب في قلبه حب الصوفية، فعلى أيديهم تربى ، ومن أقواتهم تغذى ، ومن معارفهم شرب وارتوى ، فلم ير غيرهم ، ولم يسمع سواهم، ولم يعلق قلبه بأحد دونهم، وكان مولعاً بالتشبه بهم في كل شيء إلى حد التسمي بأسمائهم، فقد سميَّ بعض ولده باسم السيد أحمد البدوي، وسميَّ آخر باسم السيد أبي اليزيد البسطامي، وهذا فضلاً عن محمد والحسين وفاطمة وزينب ونفيسة! وهو نفسه سمى جده الشيخ جودة ، ووالده سمى الشيخ أبي يزيد. اشتهر الشيخ – رحمه الله – بتعلقه الشديد بالسيد البدوي ، وبالدفاع عنه ، ورد الشبه المثارة حوله، حتى أنه كتب كتاباً علمياً حافلاً سماه "حقيقة القطب النبوي السيد أحمد البدوي"، وهو خير من يتكلم عنه ، حتى لقد سمعت شيخنا الدكتور أحمد عمر هاشم – في محاضرة له عندنا في كلية أصول الدين في طنطا إبان تولية رئاسة جامعة الأزهر – يعتذر عن الكلام عن السيد البدوي في حضور الشيخ، ويقول: هو خير من يتكلم عنه! وكان الشيخ مواظباً على حضور مجلس دلائل الخيرات وغيره من مجالس الذكر في مقام السيد، وكنت لا تخطئه هناك إلا لعذر قاهر.
وكان من أسرار تعلقه الشديد به – كما أخبرني بنفسه – أن والده كان يأمره في ذهابه وإيابه من المعهد الأحمدى – وهو طالب – أن يمر بمقام السيد، ويسلم عليه، ويقبله، ويقرأ له الفاتحة، ويدعو، وشب الشيخ على هذا، وشاب ، ولم يتركه حتى توفاه الله عز وجل! وقد تعرض للانتقاد الشديد والهجوم عليه، بل واتهامه في عقيدته بسبب هذا التصرف، وامتحن بسببه، وأوذي ، وهو ثابت لا يتزلزل، ولم يزل خصومه في شد وجذب معه حتى سعوا به إلى الإمام الأكبر الراحل الشيخ جاد الحق، فاستدعاه إلى مكتبه بمشيخة الأزهر ليسمع منه، ولقد دخلت على شيخنا مكتبه يوماً – وهو عميد لكلية القرآن، وكان يسر إلىَّ ببعض أسراره – فرأيته يراجع بعض الكتب ، وينقل منها نصوصاً ، ويوثق ، ويحقق – كعادته دائماً – في مسألة تقبيل الأعتاب، والطواف حول الضريح ، فسألته عن السبب ، فأخبرني أن الإمام الأكبر قد استدعاه ، ولا يدري لماذا ، غير أن أكبر ظنه أنه بسبب ما يفعله في مقام السيد، وقد صدق – والله – ظنه، وحين تمت المقابلة أخبرنى بما جرى فيها، وأنه ساق للإمام الأكبر الأدلة العلمية على جواز هذا الفعل شرعاً، وأنه لا يمكنه أن يخالف الشريعة في شيء، وهو من المعظمين لها، المستمسكين بحبلها، وأن الإمام الأكبر قد اقتنع بكلامه، لكنه نصحه ألا يفعل؛ لئلا يساء به الظن ممن لا يفهم، ولأنه في موضع القدوة من الخواص فضلاً عن العوام! وامتنع الشيخ فترة لموضع النصيحة، ثم عاد مرة أخرى ، فقد غلبت عليه قناعاته الشخصية والعلمية ، وألغت مشاعره الفياضة تجاه الأولياء كل اعتبار ، ولسان حاله يقول:
          أمرُّ على الديار ديار ليلى               أقبل ذا  الجدار وذا الجدارا
          وما حبُّ الديار شغفن قلبي              ولكن حب من سكن الديارا!
ومن بالغ حبه للصوفية وتعظيمه لمنهجهم أنه كان يشغل جُلَّ مجالسه بذكرهم، ونقل كلامهم ، وحكاية أحوالهم، وسرد أخبارهم ، ويقدمهم على كل شيء سواهم ، ويحول الحديث إليهم لأدنى مناسبة ، ويحب من جليسه أن يكون كذلك:
          لها أحاديث من ذكراك تشغلها           عن الشراب وتُلهيها عن الزاد!
ومن عجيب أمره في ذلك أن عنده لكل مناسبة حديثاً عنهم، مهما استبعد وجود ذلك منهم، فقد يكون الكلام في شيء من الأمور العصرية، التي يُستبعد وجود مثلها عند الصوفية فضلاً عن غيرهم، لكنه يأتيك بخبر أو حكاية أو عبارة من عندهم تناسب المقام، وتصيب المرام، فقد كان يستخرج النكتة من كلامهم بالمنقاش!
وقد كان الشيخ حريصاً على مجاورة آل البيت، والقرب من أولياء الله الصالحين في حياتهم وبعد وفاتهم ، فبيته في طنطا يقع خلف المسجد الأحمدى، وقد ترك الإقامة في هذا البيت في السنوات الأخيرة ، وانتقل إلى بيت آخر قريب منه على بُعد بضعة أمتار في نفس الاتجاه، لكنه أكثر قرباً من مقام السيد حيث يقع قبالة المقام! وللشيخ استراحتان في القاهرة إحداهما مجاورة للمسجد الحسيني ، والأخرى قريبة من مسجد السيدة زينب!
ولقد اشتهر الشيخ بين أهل عصره بأنه لسان الصوفية ، وحامل راية التصوف، وهذا حق، فإنه هو الأشهر في هذا الميدان كتابة وتأليفاً، ومحاضرة ومناظرة ، ومنهجاً وسلوكاً، ودعوة وجهاداً ، بعد وفاة  أمثال المشايخ الكرام : عبد الحليم محمود ، ومحمد زكى إبراهيم، ومحمد خليل الخطيب وغيرهم من طبقة شيوخه الذين اشتهروا بالتصوف علماً وعملاً وحالاً، وقد خلفهم الشيخ في هذا الطريق، وحمل الراية من بعدهم ! ولقد انعقد المؤتمر الصوفي العالمي مؤخراً في القاهرة، وغاب الشيخ عن المشهد لظروف مرضه، فكان من تعليق بعض الأكابر: لقد غاب فارس الميدان! ورغم هذه الصوفية العريضة للشيخ وشهرته بها؛ إ أنه لم يتبوأ منصباً رسمياً في الطرق الصوفية، ولا حتى مشيخة الطريقة النقشبندية التي ينتسب إليها، ولم يكن يطمح إلى شيء من ذلك، فقد كان يرى أن جهاده العلمي والدعوى ، وقيامه بالتربية الروحية للمريدين أجل من تلك المناصب الرسمية ، وأوسع وأنفع للمسلمين منها فالشيخ من شيخه العلم لا من شيخته الوظائف!
وللشيخ من المؤلفات العلمية في التصوف : النفحات الجودية ، حقيقة القطب النبوى السيد أحمد البدوى – وقد مرت الإشارة إليهما - ، شوامخ من أعلام الصوفية ، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات كتبها وهو معيد بكلية أصول الدين في فترة السبعينيات، ونشرها في مجلة منبر الإسلام ، وأخبرني أن الشيخ عبد الحليم محمود كان معجباً بكتابته؛ وأنه بشره بمستقبل عظيم ! وقد جمع تلك المقالات، وزاد عليها بعض التراجم، وعمل مقدمة للكتاب، وكنت أعاونه في الإعداد لهذا الكتاب ومراجعته، وكنت قد أشرت على فضيلته – إذ استشارني – بأن يرتب الكتاب على الطبقات ، وقد فعل. وللشيخ مؤلفات أخرى في التصوف بعضها في الأوراد والأذكار العامة والخاصة، وبعضها في التأصيل للمفاهيم والمناهج الصوفية ، وبعضها في الرد على شبه الخصوم ، وبعضها مقدمات علمية رصينة لكتب صوفية محققة.
لقد كانت فكرة التصوف هي القضية الكبرى التي يؤمن بها شيخنا، ويؤصل لها، ويدعو إليها، ويناظر عليها، وينافح عنها، وكان كثيراً ما يتمثل بقول إبراهيم بن أدهم: "لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف"! ولقد كانت قضية التصوف شغله الشاغل الذي ملك عليه أقطار نفسه، واستغرق الكثير من وقته وجهده، وهيمن على فكره وقلمه، حتى في بحوثه العلمية التخصصية، فقد كتب بحوثاً قيمة عن الاتجاه الصوفي عند بعض المفسرين، ممن لم ينسب قط إلى تصوف، كالإمام القرطبي وغيره، بل طلب مني أن أكتب بحوثاً مماثلة عن الاتجاه الصوفي عند المحدثين، إيماناً منه بأن التصوف الحق هو ربانية الإسلام، وهو طريق الصلاح والخلاص لهذه الأمة، وهو المنهج الذي كان عليه السلف الكرام، والذي تتضاءل أمامه كل المناهج ، بغض النظر عن قضية المصطلح ، والممارسات الخاطئة التي شوهت معالم الحق فيه!
ولقد أوعز إليه البعض يوماً أن يتخلى عن هذا المنهج، أو بالأحرى يخفف من غلوائه، وانتقاد خصومه، أو على الأقل يقف على الحياد من جميع التيارات والمناهج، كي تنفتح أمامه كل أبواب الشهرة والرزق في الداخل والخارج، لكنه رفض بشدة، وأصر على موقفه، وأبى إلا الثبات على المبدأ، وقد أعرض عن السفر للعمل في الخارج رغم كثرة العروض التي أتته، وترك الظهور الإعلامي في بعض القنوات، والكتابة في بعض المجلات، فقد كان يرفض التلون من أجل المادة، ويضحي من أجل الفكرة، وكان يقول لمن يلومه على ذلك: "نحن في بحبوحة من العيش ، والحمد لله الذي أغنانا من فضله"!
مكانته العلمية والأدبية :
تخرج الشيخ في كلية أصول الدين عام 1968م، وكان ترتيبه الأول على أقرانه، كما أخبرني زميل دراسته شيخنا الدكتور سعد جاويش، وعين معيداً بالكلية في 9/4/1969م، ثم رُقي إلى درجة مدرس مساعد عام 1970م ، ثم حصل على الدكتوراه في التفسير وعلوم القرآن عن رسالته "الواحدى ومنهجه في التفسير"، وقد طبعها المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ولما افتتحت كلية أصول الدين بطنطا – وكان اسمها القديم كلية الدعوة – انتقل إليها عام 1977م ، وعين مدرساً في نفس العام ، وكان يدرس فيها مع كبار مشايخه! ثم رقي إلى درجة أستاذ مساعد في 18/8/1981م ، ثم إلى درجة أستاذ في 1/7/1985م، ثم عين وكيلاً لكلية أصول الدين في طنطا عام 1986م، ثم عميداً لها عام 1991م، ثم لما أنشئت كلية القرآن الكريم في طنطا عام 1992م أسند إليه الإشراف عليها مع عمادته لكلية أصول الدين ، ثم عين عميداً لها عام 2002م ، وهو أول من تولى عمادتها، ثم شغل منصب نائب رئيس جامعة الأزهر للوجه البحري عام 2006، وظل يشغله حتى أحيل إلى التقاعد عام 2009م.
واختير الشيخ عضواً بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية – وكان مقرراً للجنة القرآن والسنة – كما أُختير عضواً بالمركز الدولي للسيرة والسنة، وعضواً بمجمع البحوث الإسلامية، وكان أحد الأعضاء باللجنة العلمية الدائمة (!) لترقية الأساتذة بقسم التفسير ، واللجنة العلمية بالمجلس الأعلى للطرق الصوفية، ونقابة الأشراف، وأشرف على عشرات الرسائل العلمية، وناقش العديد منها، ودرس وحاضر في العديد من الجامعات والمعاهد والمساجد ، وجاب البلاد شرقاً وغرباً للدعوة إلى الله تعالى ونشر المنهج الصوفي الأصيل ، في داخل مصر وخارجها.
وقد تتلمذ الشيخ في المعهد الأحمدي على كبار المشايخ من أمثال : محمد خليل الخطيب، إبراهيم الدسوقي خميس ، توفيق محمد سبع ، محمود سالم الخطيب. وكان يقول عن الأخير: درس لي طالبا ، وزاملته مدرسا ، وأشرفت عليه أو ناقشته باحثا – الشك مني -! وكان الشيخ محمود يكبر شيخنا بكثير، وحصل على الدكتوراه في سن متأخرة من متانته العلمية ، فقد كان من الجيل القديم.
كما تتلمذ الشيخ في كلية أصول الدين على أعلام عصره من أمثال : عبد الحليم محمود، محمد الغزالى ، محمد السماحى ، محمد بن فتح الله بدران، محمود النواوي ، أحمد الكومي ، سيد أحمد المسير، أحمدين. وأخبرني شيخنا الدكتور سعد جاويش بأن الشيخ عبد الحليم محمود كان يحبه كثيراً، ويقدمه على زملائه، وكان معيداً لدرس الشيخ في غيابه، فقد كان أستاذاً في زي طالب! وقد تأثر الشيخ ببضع شيوخه تأثراً عظيماً لاسيما الصوفية منهم، كالشيخ الخطيب والشيخ عبد الحليم محمود.
وأما تلاميذه فلا يحصون كثرة ، ومن أبرزهم من الطبقة الأولى الدكاتره المشايخ: أحمد عجيبة ، فتحى الزغبي ، مجدى الصافوري ، ومن الطبقة الثانية : أحمد القرشي ، أحمد أبو الفضل ، مخلوف جلاجل، ومن الطبقة الثالثة: عبد الله موسى ، ياسر سليمان ، وكاتب هذه السطور.
كان شيخنا – رحمه الله – ممن يحرص الطلاب على حضور محاضرته ، وتكتظ بهم القاعة، بالرغم من أن محاضرته كانت تقع في وقت متأخر من اليوم الدراسي ، وذلك بعد أن ينهي الشيخ أعماله الإدارية كعميد للكلية، فكان الطلاب ينتظرون محاضرته انتظار الظمآن إلى الماء ، فإذا جلس أمامهم فكأنه بحر يتفجر، أو سيل ينحدر ! فلم تكن محاضرته محاضرة عادية، بل كانت دائرة معارف علمية! وقد شاركه في هذه الخصوصية الكبار من أبناء جيله من مشايخنا الذين درسونا في طنطا ، من أمثال : القصبى زلط ، إبراهيم سلامة ، عبد الله الشاذلى، وفتحى أبو عيسى.
وكان في محاضراته يلتزم الفصحى لا يحيد عنها، فإذا تكلم أسكت الجميع بفصاحته وجزالته وعمقه وتحقيقه، وكان في شرحه يمتاز بالموسوعية، لاسيما في التفسير التحليلي، فمن جوانب عقدية ، إلى أخرى فقهية ، إلى ثالثة لغوية! وكان يقول: "من لم يتعلم اللغة من كتب اللغة فسأعلمه إياها في التفسير"!
وكان ينتهز الفرص للإشارة إلى بعض المفاهيم الصوفية في تفسيره ، إذ كان يميل بحكم تربيته ونشأته إلى التفسير الصوفي الإشاري، وينقل فيه عن أعلام المفسين من الصوفية كالقشيري والرازي والألوسي، وكان بعض الطلاب ممن لا يؤمنون بفكرة التصوف ينتهزون هم الآخرون تلك الفرص لمناقشته في تلك المفاهيم، فيتسع صدره لهم، ولا يجد في نفسه حرجاً من ذلك ، وكان يكشف ما عندهم من شبه، ويزيل ما عندهم من لبس ، ويقنعهم بالأدلة، فيروى الغُلة، ويشفي العلة ، بحكمة الأستاذ ورحمة الوالد ، فيخضعون له الخضوع التام ، ويسلمون له في احترام!
وقد شهد له الموافق والمخالف بقوته العلمية وبقدرته الفائقة على إقامة الحجج والبراهين على ما يعتقد أنه الحق والصواب، لا يختلف أحد منهم في ذلك ، وإن خالفوه في المنهج!
ومن مؤلفاته التخصصية التي تدل على عالميته : تدبر أسرار التنزيل (تفسير سورة الفاتحة)، قصد السبيل في التفسير الموضوعي لأي التنزيل ، الإيمان والتقوى في القرآن الكريم، فنون الأفنان من علوم القرآن ، وله كتاب في السيرة النبوية بعنوان "هدى النيرين في سيرة سيد الكونين". هذا عدا مؤلفاته في التصوف والتي سبقت الإشارة إليها.
وقد كان للشيخ ميول أدبية في صدر الشباب ، وأخبرنى أنه حاول قرض الشعر فلم يفلح، ولعل شيخه نهاه عنه، وكان يقرأ شعر نزار قبانى وصلاح عبد الصبور، كما كان يقرأ لنجيب محفوظ وغيره من أعلام الكتاب، ثم حببت إليه العلوم الشرعية، فانصرف إليها عن الأدب والشعر، ونعما ما فعل ! فلئن كنا خسرناه أدبياً أو شاعراً ، فلقد كسبناه عالماً لا يشق له غبار!
ولقد كان لقراءاته الأدبية السابقة أثر كبير في ترقيق مشاعره، وترهيف إحساسه، فضلاً عن أثرها في سلامة لغته، ورصانة أساليبه، ومتانة تراكيبه! كما كان لتربيته الصوفية أعظم الأثر في روحانيته وشفافيته العالية ، التي امتاز بها عن أقرانه من الأساتذة.
ديانته وأخلاقه :
كان الشيخ – رحمه الله – عبداً ربانياً، صواماً، قواماً ، أوهاً ، تلاء للقرآن، كثير التدبير له ، وكان يختمه في صلاته، كما كان له ورد يومى يحرص عليه لا يفوته، ولقد صحبته يوماً في سفره إلى القاهرة، وهو يقرأ ورده في المصحف ، حتى أقبل الليل بظلامه، فمازال يدقق النظر في المصحف  على البصيص المتبقي من ضوء النهار، حتى أنهى ورده! وكان الشيخ كثير التصدق في السر والعلن، يكثر من مساعدة الطلاب الفقراء ، وكان زاهداً في المال غير حريص على جمعه، لا يبالي ما أتاه منه ولا ما فقده.
وكان عظيم الأدب ، شديد الحياء ، بعيداً عن العبارة الجارحة مع من يخاطبه، حريصاً على مراعاة مشاعر الناس ، لا يشعر جليسه قط بأنه غير راغب في مجالسته، حتى ولو كان كذلك، وكان هادئاً ، حليماً ، وقوراً، لا يستفزه الغضب ، وفيه مرح ودعابة ذكية – فقد كان ألمعياً متوقد الذهن – غير منقبض ولا متجهم ، راض عن الله ، محب لعباده ، منبسط معهم، سهل الخليقة ، سليم الصدر ، نقي القلب ، رقيق المشاعر ، رهيف الإحساس ، يسعى في حوائج الناس ، لا يرد سائلاً سأله ، ولا داعياً دعاه، ولا طالب علم أو هداية قصده.
وكان شديد الغيرة على الحرمات، قوياً في دينه ، سليماً في اعتقاده، مكثراً من النوافل، مدمناً للذكر والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ، مكثراً من زيارته، مترضياً عن الآل والأصحاب والأولياء، مكثراً من زيارتهم ، معظماً للجناب النبوي الأطهر.. غيوراً عليه من كل ما يخدش كماله، أو يسقط هيبته وجلاله ، حتى إنه لم يكن راضياً عن المذهب الأصولي القائل بجواز الخطأ في اجتهاده صلى الله عليه وسلم، ويراه من سوء الأدب ، وغير لائق بجلال منصب النبوة! وكان يعتمر في رمضان من كل عام، ثم اعتمر في آخر عمره في رجب وشعبان، وإنما كان يكثر من الاعتمار ، اقتباساً للأنوار، والتماساً للأسرار، وقصداً للقرب من النبي المختار، وآل بيته الأطهار، وصحبه الأخيار، وكان يتوخى زيارة الإمام الحسين في كل يوم اثنين، ويحكي في ذلك عن أهل الأذواق ما لا يمكن تسطيره في الأوراق!
وكان كريماً مضيافاً، لاسيما في المناسبات الدينية التي كان يفتح فيه بيته للناس، كالمولد الأحمدي ، وكانت تأتيه الوفود لأخذ العهود، والتعرض للكرم والجود، وقد أخذ عليه العهد بعض الأكابر، وتتلمذوا له في الطريق، وقبلوا يده – وبعضهم أسنُّ منه – اعتقاداً فيه، وتبركاً به، ومن هؤلاء شيخنا العلامة الدكتور فتحى أبو عيسى، العميدان الأسبقان لكلية اللغة العربية، وشيخنا الدكتور صفوت زيد أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية اللغة العربية، والدكتور محمد عزت عبد المنصف العميد الأسبق لكلية العلوم بجامعة طنطا، وكان ينظر إلى الموالد على أنها فيها الخير والشر ؛ فالخير ينبغي الإبقاء عليه، والشر تجب مقاومته، وكان ينكر على الصوفية وقوعهم في البدع والمنكرات، وتهاونهم في أداء العادات !
وكان متواضعاً مع اعتزاز ، ويوقع كتبه بالفقير إلى الله تعالى ، وكان يقول : لقب الشيخ أحب إليَّ من لقب الدكتور !
وكان غيوراً على الأزهر ، معتزاً به وبعلمائه، حزينا على ما وصل إليه حاله من الضعف، وكان كثيراً ما يتمثل بالعبارة المشهورة: "لا علم إلا أزهري، ولا قرآن إلا أحمدى"! وقد حزن حزناً شديداً حينما تعثرت خطوات إنشاء كلية القرآن الكريم فترة من الزمن، وكنت كثيراً ما أراه مهموماً حزيناً على غير عادته في ذلك الوقت !
وكان الشيخ – رحمه الله – بهي الطلعة، جميل المنظر ، مشرق الوجه، منفرج الأسارير، تبدو عليه آثار نعمة الله – عز وجل – حساً ومعنى!
وقد شرفت بصحبته عشرين سنة، وكنت أرافقه في سفره كثيراً، وقد أرفقني شقته في حي سيدنا الحسين بالقاهرة، حينما كنت طالباً في الدراسات العليا ، تفضلاً منه وكرماً ودعا لي غير مرة ، وبشرني بما يسرني ، وقرظ لي كتبي ، وأثنى عليَّ  بما أخجل منه، ولازال يحبوني ويتحفني حتى دعاه الداعي، ونعاه الناعى ، فلحق بالرفيق الأعلى، وتبوأ المكان الأسمى ، رحم الله شيخنا الدكتور جودة ، وأنزله المقعد المقرب عنده:
"مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا:". (النساء : 69) 

الثلاثاء، 17 يناير 2012

اللحن بالحجة والقطعة من النار: رداً على مقال علاء الأسواني




نبدأ بخير الكلام من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "إنكم تختصمون لدي وإنما أنا بشر؛ ولعل أحدكم ألحن بالحجة من أخيه فأقضي له، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذْه، إنما أقطعُ له قطعةً من النار". وهذا اللحن في القول هو الذي يلبس الباطل ثوب الحق ويجعل الحق باطلاً أو يغير في نصيب كل قول من الحق والباطل، والحديث وإن كان وارداً في نزاع بين الأفراد، فلا شك أنه عام في كل خطاب نزاعي، أكان متعلقاً بالأفراد أو الجماعات. وهذا ما نحن بإزائه بالضبط في الجدل السياسي المشتعل في مصر منذ بدأت الدعوة لاستفتاء مارس 2011.

وكثير من السياسيين الراديكاليين جِدُ ماهرين في شيء واحد يؤثرون به في عقول الجماهير ويدفعونهم لتبني مواقفهم الراديكالية، ألا وهو تجميع أجزاء صورة تبدو منطقية أمام بعض الناس رغم ما فيها من تناقض وافتعال، ولي عنق الكلام ومط الحجج الواهية في سبيل الوصول إلى غاية محددة. من هذا القبيل ما كتبه علاء الأسواني في المصري اليوم نشره موقع مصراوي اليوم 17 يناير 2012 بما يفضي إلى نتيجة واحدة فقط وهي أننا بإزاء فريقين متعارضين: ثورة ومجلس عسكري، وفي جناح المجلس العسكري يأتي الإخوان والسلفيون ومعظم الشعب وهؤلاء عند الأسواني هم أدوات استمرار النظام القديم، وفي جناح الثورة تقف مجموعات من الناس بضعف في العدد وارتفاع هائل في الضجيج!! وهذه تفرقة لا نسلم بها أصلاً، وليست في التحليل الأخير إلا تبسيطا واختزالاً لمشهد كبير ومعقد بما يناسب عقول البسطاء وربما انخدع به بعض من لا ينتبهون جيداً لأساليب التضليل التي يستخدمها بعض الكتاب.

يقول الأسواني:
عزيزي القارئ.. هل لديك ابن في الصف السادس الابتدائي؟! من فضلك خذ منه كتاب الدراسات الاجتماعية واقرأ بدءا من صفحة رقم 101.. ستجد موضوعا كبيرا من عدة صفحات، مدعما بالصور، يستعرض ما يسمى إنجازات حسنى مبارك خلال ثلاثين عاما.. الدرس يستعمل تعبير ''الرئيس مبارك'' (لا السابق ولا المخلوع)، وبعد أن يستعرض أعماله في السياسة الخارجية والاقتصاد والتضامن الاجتماعي، يكتفي الدرس بالإشارة إلى الثورة المصرية بجملة واحدة فيقول: ''على أن كل هذه المحاولات من الرئيس مبارك لم تكن كافية لإرضاء الشعب فقام بثورة لتغيير النظام''.
هل الأسواني على دراية بكيفية كتابة كتب الدراسات الاجتماعية فعلاً؟ وهل هو مطلع على خلفيات وجود هذا الكلام بحق؟ وهل لا تختفي احتمالات أخرى ربما تفسر هذا الخطأ؟ ألا تمجد كتب الدراسات الاجتماعية نظام يوليو كله الذي أسقطته الثورة؟ أليس لجمال عبد الناصر وأنور السادات النصيب نفسه من التمجيد؟ ألا يوجد في مصر تراث باطل يقوم على احترام "الزعامات السابقة" ترى هل تسبب حسني مبارك الذي نكرهه جميعاً في كارثة كتلك التي تسبب فيها جمال عبد الناصر بهزيمته في 67؟ الوزارة لم تخرج عن هذا التقليد الذي أحكم عليه بأنه باطل، ولكن كيف نحاسب العسكر على فقرة في كتاب الدراسات الاجتماعية ولم يمر على الثورة سوى سنة؟ هل يدرك الأخ الأسواني مثلاً أن الموقع الإلكتروني لوزارة التعليم العالي ظل يحمل صورة هاني هلال الوزير البائد لعدة شهور بعد انتصار الثورة ومجئ عمرو سلامة؟ هل يمكن حمل هذا على استمرار النظام أم على فشل إداري منعزل؟

يضيف في فقرة أخرى من فقرات مقاله:

"خامسا: أجرى المجلس العسكري انتخابات غير عادلة، أراد بها أن يمنح أغلبية مقاعد البرلمان لجماعات الإسلام السياسي، فسمح لهم بتكوين أحزاب دينية ''في مخالفة صريحة للمادة الرابعة من الإعلان الدستوري الذي وضعه المجلس العسكري بنفسه''،

هذا ما اسميه اختراع الأكذوبة وتصديقها، فلا دليل على توفر إرادة لدى المجلس العسكري لفوز القوى الإسلامية وقد حدث نزاع بين الفريقين لدى إصدار وثيقة السلمي، ثم بعد تصريحات مختار الملا وممدوح شاهين معاً بشأن دور البرلمان وتوزيع السلطة. وتشكيل المجلس الاستشاري يكذب مزاعم علاء الأسواني.

أما تكوين الإسلاميين للأحزاب فقد جرى بقررات من القضاء لا من المجلس العسكري، فضلا عن أنه كان مطلبا وطنياً عاماً نادت به كل القوى السياسية قبل الثورة، وهو حق سياسي في المقام الأول. هذا فضلاً عن أن إضفاء وصف الدينية على كل هذه الأحزاب الإسلامية مسألة متنازع فيها من الناحية الفكرية أصلاً. وهؤلاء الإسلاميون بما فيهم حزب الوسط فازوا بخسمة وسبعين بالمائة من أصوات الناخبين، فعن أي شعب يتحدث علاء الأسواني. بل إن حزب الوفد المتحالف الآن برلمانياً مع الإخوان فاز بدوره بتسعة بالمائة من الأصوات فنحن نتكلم في حوالي 85 بالمائة من أصوات الشعب وهذه كتلة تصويتيه هائلة لا تتكرر في التاريخ إلا نادراً.

ثم يقول الأسواني:
وشكّل المجلس العسكري لجنة عليا للانتخابات غضت الطرف عن كل أنواع التجاوزات الانتخابية والسياسية للأحزاب الدينية، بدءا من الدعاية السياسية في الجوامع، إلى شراء الأصوات، إلى التأثير على الناخبين داخل اللجان وأمامها إلى ملايين الجنيهات التي أنفقها الإخوان والسلفيون دون أي رقابة على تمويلهم من المجلس العسكري الذي انحصرت رقابته على الناشطين الذين ينتقدون سياساته، مثل الجمعيات الحقوقية و''حركة 6 أبريل''، التي اتهمها المجلس بتلقي أموال من الخارج، ثم عجز تماما عن إثبات اتهاماته لها.
 محاولة قصر التجاوزات الانتخابية على تلك القوى هو ضرب آخر من التزييف، ولا يذكر الأسواني شيئاً مثلاً عن تأييد مؤسسة دينية كاملة لمجموعة من المرشحين وإصدارها قائمة بذلك، وهذه المخالفة لو وزنت بها كل مخالفات القوى التي يسميها إسلامية لفاقتها من حيث الثقل والخطورة. ولا أعتقد أنه يخفى على الأسواني أصلاً معنى أن تحتشد مؤسسة دينية بكاملها وراء مجموعة محددة من مرشحي الكتلة المصرية ومن تحالف معهم. ثم إن تحالف الكتلة المصرية يضم حزباً قام على أساس ديني وهو الحزب المسمى بحزب التحرير (الذي يزعم أنه صوفي الهوية، مع أن المجموعة التي أقامته مجموعة ملفوظة ومرفوضة من جموع الصوفية). ومع هذا فلم يتدخل المجلس العسكري باتخاذ أي إجراء ضد المؤسسة الدينية التي صدر عنها تأييد تحالف الكتلة ومجموعة من المرشحين الليبراليين، ولا ضد أفراد هذه المؤسسة الذين قاموا بذلك. وهكذا لا يفعل الأسواني أكثر من اجتزاء أجزاء من الصورة يرصها بجوار بعضها رصاً ليكون مجموعاً سوداوديا من المشاهد يبرر به الانتهازية السياسية للمجموعة الراديكالية.

ثم يقول الأسواني
"لست ضد المنتمين للإسلام السياسي، فهم مصريون وطنيون، لهم كامل الاحترام، لكن الحق يجب أن يقال: سوف يفصل القضاء إن كانت هذه الانتخابات مزورة أم لا، لكنها في كل الأحوال لم تكن انتخابات عادلة".
أما كاتب هذه السطور فمعروف بموقفه المضاد للقوى السلفية ومع هذا لا أهيل التراب على الانتخابات ولا أصفها بالتزوير كذباً ولا بعدم العدالة، فالشيء المؤكد هو أن العسكري أعطى الجميع فرصا متساوية لمخالفة قوانين الانتخابات، وأن زيادة التركيز على مخالفات الإسلاميين هي بسبب تغلب التيار الليبرالي في الإعلام، وبسبب الحجم الأكبر بكثير لهذه القوى في الشارع، حيث إن نسبة مؤيدي الإسلاميين تفوق نسبة مؤيدي الليبراليين ثماني مرات على الأقل بحسب نتائج الانتخابات. وبدلاً من مواجهة هذه الحقائق يسعى الليبراليون بكل قوة لتشويه هذا الإنجاز الديمقراطي الرائع بالاعتماد على شبهات واهية وشائعات لم يثبت منها شيء، مع أن ألف باء الثورة أن تقوم على إثبات الحقائق وإبطال الزيف.

أما حديثه عن عدم كون الانتخابات عادلة لما حاق بالليبراليين من هزيمة فلا يعني كثيراً في ميزان العقل والبصيرة، لأن الجميع تسابقوا في المخالفة وحشدت الكنيسة شركاء الوطن لصالح تيار بعينه، بينما الحقيقة الفجة التي يتعامى عنها الأسواني أنه لا توجد مؤسسة دينية لدى المسلمين قادرة على حشد الصوت المسلم بشكل ديني كما فعلت الكنيسة للاختلاف المعروف بين الديانتين في حجم الدور الذي تعلبه المؤسسة الدينية في حياة الناس. فبينما تبقى الكنيسة جزءا من الديانة المسيحية لا يتصور وجود المسيحية بدونها، فإن دور الأزهر بوصفه المؤسسة الدينية المصرية دور اتفاقي تواضعي في الأساس، نظراً لتنظيم الإسلام وتشريعه للاختلاف من الأصل. لذا لم يكن من الغريب أن يعطى المحيطون بشيخ الأزهر أصواتهم لقوى مختلفة، كما علمتُ أنا، فمنهم من انتخب الوفد، ومنهم من انتخب الوسط، ومنهم من انتخب الإخوان.

ثم أين كاتب المقال من الحملات اليومية المنظمة التي كانت وسائل الإعلام الليبرالية تشنها على السلفيين بما يتجاوز النقد أحياناً- وهو ما نتفق معه بالطبع- إلى التشويه العمدي في بعض الأحيان؟ نعم نختلف مع السلفيين ونتمنى أن تكون قوى الاعتدال هي الغالبة على المشهد السياسي دائماً، ولكن هذه حقيقة لا يجوز لنا السكوت عنها. فلئن كانت مخالفة السلفيين مخالفة جلية وظاهرة، فمخالفات التيار الليبرالي كانت خفية، تتشح بوشاح النقد وحق القارئ في معرفة الخبر، بينما فيها من الغرض ما فيها، وهي مع أنها لا يبدو فيها مخالفة  قانونية ظاهرة، تظل لا أخلاقية في جوهرها.

وإذا كان الأمر كذلك فعن أية عدالة غائبة يتحدثون؟

الخميس، 12 يناير 2012

شعر الرفض بين مقاومة العربي وإنصاف اليهودي: أمل دنقل وسامي شالوم شطريت



يختلف التمرد باختلاف الظروف التي ينشأ فيها ويختلف التعبير عنه في الشعر في الشعر تبعا لذلك. ويمكننا إجمالا أن نقول إن التمرد يختلف باختلاف قوة اليقين المعبرِ عنه والباعث عليه، فكلما ازدادت درجة اليقين علت نبرة التمرد وكلما تقلصت درجة اليقين انخفضت نبرة التمرد. ومثل هذه المبدأ يمثل أساسا لفهم الفارق بين تمرد أمل دنقل وتمرد سامي شطريت.


فوضوح الرؤية النضالية وارتفاع درجة اليقين عند أمل دنقل يجعل التمايز بين الحق والباطل عنده تمايزاً تاماً لا يمثل إشكالاً من حيث التعبير عنه ولا يتفاوض الكاتب مع نفسه كثيرا حول كيفية أدائه لغوياً، وهو تمايزٌ يستدعي ألفاظا وأساليب على نفس الدرجة من الوضوح وقطعية الدلالة  "وعدم التهاون" في التعبير عنه. بينما يقف شطريت موقفا مختلفاً لأنه ينتسب لكيان يسبح فوق بحر من الحيرة وتتنازعه الانقسامات ولا يوحده سوى هم البقاء دولة قومية لليهود.

يتخذ شعر دنقل من وجود التعارضات ووضوح التناقضات أدوات للتعبير عن اليقين وإعلاء أحد المتناقضين على الآخر، فالحق يقف بإزاء الباطل ويعلو عليه، ومن ثَم العربُ بإزاء الصهاينة، والشعب بإزاء السلطة، والفقير بإزاء الغني. وقد يقلب موقعي النقيضين في الثقافة العربية فيعطي للشيطان قيمة إيجابية مقابل الإله، وللغوي قيمة إيجابية مقابل النبي. فالتعارض وإعلاء أحد طرفي التعارض على الآخر يمثلان مبدأً بنائيا في شعره ويكون همُ الشاعر تعميق تلك التعارضات والمنع من "التصالح" بينها:
لا تصالحْ!
..ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى.
...
هل يصير دمي -بين عينيك- ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء..
تلبس -فوق دمائي- ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!
(2)
لا تصالح على الدم.. حتى بدم!
لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟
أقلب الغريب كقلب أخيك؟!
أعيناه عينا أخيك؟!
وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك
بيدٍ سيفها أثْكَلك؟

ومع لزوم ما لا يلزم في القافية الأخيرة (لك، أثكلك) نرى مفارقة التوافق الصوتي المبني على التضاد المعنوي وهو ما يزيد هذا التضاد وضوحاً وبعثاً على الاندهاش.

وإذا تفلت من الوعي نزوعٌ للتصالح بين التعارضات يسارع أمل دنقل إلى إعادة تحفيز الشعور ببلاغة الكلمات واستثارة الانفعالات كي يستعيد الوعيُ موقفَه القطعي الذي لا يمكن أن يمتزج فيه الدم بالماء ليصنعا خليطا مائعا لا هو بماء ولا هو بدم، كاللاحرب واللاسلم:
 وتذكَّر..
(إذا لان قلبك للنسوة اللابسات السوادَ ولأطفالهن الذين تخاصمهم الابتسامة)
أن بنتَ أخيك "اليمامة"
زهرةٌ تتسربل -في سنوات الصبا-
بثياب الحداد

وإذا لم تفلح هذه الحيلة يلجأ الشاعر لإثارة حساسية الرجل الشرقي تجاه معاني رجولته:

كيف تنظر في عيني امرأة..
أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها؟
كيف تصبح فارسها في الغرام؟





ويشحذ الوعي النضالي مرة أخرى باصطناع تعريفات للكلمات تعيد تأكيد التناقض الذي قد يتآكل تمايز طرفيه بفعل الزمن أو بفعل الظروف والضغوط:
فما الصلح إلا معاهدةٌ بين ندَّينْ..
(في شرف القلب)
لا تُنتقَصْ

وتنتهي الجولة بانتصار أحد النقيضين طرفين على الآخر:

فليس سوى أن تريد
أنت فارسُ هذا الزمان الوحيد
وسواك.. المسوخ!

ويكرر الشاعر نهيه لكليب عن التصالح مرة أخرى بقوله في ختام القصيدة: "لا تصالح/ لا تصالح. وهي عبارة يمكن قرائتها على أنها نفي لارتفاع التناقض إذا قرئت: لا تَصالح/لا تَصالح. والحقيقة أن التشكيل يعطينا القراءتين لأن الشاعر لا يضبط تاء تصالح بفتح أو ضم.

وإذا لم يجد دنقل الضدين أو المتعارضين ماثلين أمامه كي يتعامل معهما شعرياً وفكرياً، يسعى في صنعهما، فيسأل حينئذ "ضد من؟"
في غُرَفِ العمليات,
كان نِقابُ الأطباءِ أبيضَ,
لونُ المعاطفِ أبيض,
تاجُ الحكيماتِ أبيضَ, أرديةُ الراهبات,
الملاءاتُ,
لونُ الأسرّةِ, أربطةُ الشاشِ والقُطْن,
قرصُ المنوِّمِ, أُنبوبةُ المَصْلِ,
كوبُ اللَّبن,
كلُّ هذا يُشيعُ بِقَلْبي الوَهَنْ.
كلُّ هذا البياضِ يذكِّرني بالكَفَنْ!
فلماذا إذا متُّ..
يأتي المعزونَ مُتَّشِحينَ..
بشاراتِ لونِ الحِدادْ?
هل لأنَّ السوادْ..
هو لونُ النجاة من الموتِ,
لونُ التميمةِ ضدّ.. الزمنْ,
***
ضِدُّ منْ..?
ومتى القلبُ - في الخَفَقَانِ - اطْمأَنْ?!
***
بين لونين: أستقبِلُ الأَصدِقاء..
الذينَ يرون سريريَ قبرا
وحياتيَ.. دهرا
وأرى في العيونِ العَميقةِ
لونَ الحقيقةِ
لونَ تُرابِ الوطنْ!


         أما عند شطريت فالتصالح بين الأضداد ليس عاراً (كما في "لا تصالح")، بل هو أملٌ مراوغٌ يتعذر الوصول إليه. والشعر عند شطريت مَخرجٌ للتوترات الناتجة عن تعارضات الهوية التي لا تنحل، فيكون الخلاص دائماً لا بإعلاء أحد الطرفين على الآخر، بل بتكرار التساؤل المأساوي عن تمزق الشاعر بين هويتين عربية ويهودية، وتمزق الدولة بين هويات وأعراق مختلفة، بين اليهود الغربيين والشرقيين، بين اليهود البيض واليهود السود، وبالطبع بين الفلسطيني المهدرة حقوقه والإسرائيلي المحتل. يمثل هذا الارتكان على التساؤل وهذا التعبير عن الحيرة محاولة للهروب من المأزق الأخلاقي الذي يطرحه وجود إسرائيل نفسه.

يعتمد شطريت آليات شعرية تختلف اختلافا جذريا عن تلك التي يعتمدها دنقل، فبينما يستند دنقل في غالب شعره على أشخاص من ذوي الثقل التاريخي والثقافي اكتسبوا قداسة دينية أو قداسة ملحمية أو صاروا نماج للدنس والاستبعاد المقدس، وعلى حوادث من نفس القيمة وبنفس الخطورة التاريخية: واقعة التحكيم في حديثه مع أبي موسى الأشعري، سرقة النار في كلمات سبارتاكوس الأخيرة، حطين، حرب البسوس إلخ، يستند شطريت كثيراً وجوه الحياة الواقعية ليصنع دراما الشتات في شعره. فالشخوص في شعره تصنعهم الحياة ولا يصنعونها، يوجدون فيها ولا يوجدونها: امرأة أمريكية ودودة، صاحب مطعم صغير من أصل يوناني في نيوريوك، رجل يهودي يريد أن يدفن في أرض المعاد، يرفض الإشكناز دفنه في أرضهم لأسباب عنصرية خسيسة ويقبله السفارديم لأسباب لا تقل خسة وانتهازية ولكنها أكثر نفاقا وادعاء للتدين. وبينما يبدو هذا التلخيص للقصدة فاجعاً يحرص شطريت على تضيع حدة المواجهة في سرده الهادئ الرتيب عن عمد كي يعطي الجملة الأخير ثقلها، فالشاعر يتخلص من جثوم التعصب الإشكنازي والنفاق السفارديمي بترهل متعمد في اطراد القصيدة حتى إذا جاءت الجملة الأخيرة فجعنا بمفارقتها واكتشفنا أن الحكي الرتيب يخفي وراءه مكراً شعرياً وحرفية محسوبة ومرسومة بعناية وصدمة ستفاجئ القارئ بلدغتها التي جعله إيقاع القصيدة المتهادي غافلا عنها.

ويصنع شطريت من أصوله المغربية ولغة طفولته العربية وإحساسه بالظلم: (من كونه مظلوماً) بوصفه يهودياً شرقيا، و(من كونه ظالماً) بوصفه محتلاً سياقا تراجيديا لتجربته الشعرية، فهذا شاعر مشدود من أشدود يكتب قصائد بـ"الأشدودية" لغة الأغيار. وجوهر تمرده اللانتماء المشوب بالاعتذار والتمزق بين نار ونار وخيارات أحلاها مشوب بالمرار. شاعر عبري يكتب جدارية بلا جدار، كما يكتب بلغة بلا وطن، رغم وجود الوطن ولكنه عنده وطن للعار.

 يبقى شطريت في النهاية ابناً لدولة محتلة يحمل جنسيتها ولا يستطيع أن يقف منها موقف دنقل. فتمرد شطريط هو استغلال شعري للحيرة مع عدم قدرته على تجاوز حيرته لأن تجاوزها إما أن يجعله رافضا لفكرة الوطن القومي لليهود من الأصل وإما أن يجعله يمينيا صهيونياً آخر.
يقول في قصيدته "تأمل سريع":

في الشعر لا ترى
الفن المخادع يزين
النفاق؛ كلاهما لازم
لوجودي، بالضبط
كصورتي الملتقطة في شارع صلاح
الدين تحملها
بطاقة إقامتي الآن.


الصورة هنا مجمع للاختلافات التي قد تحتوي أضداداً بشكل ضمني، فهي صورة لـ "يهودي" في شارع "صلاح الدين" في مكان "أرمني" قرب السفارة "الأمريكية". ويتفتح المعنى ويزهر من ملاحظة تجاور هذه هذه الهُويات، بما يتجاوز صراحة التعبير ومباشرته. على الجانب الآخر توجد صورة "الجنوبي" الذي يدرك تمايزه داخل وحدة الشمال والجنوب في الوطن الكبير. التمايز هناك سياسي وعنصري، بين اليهود الغربيين واليهود الشرقيين خاصة العرب منهم، بين الإسرائيلي والفلسطيني، والتعبير عنه عادي وفردي. بينما تمايز الجنوبي عن الشمالي تمايز طبيعي، جغرافي وثقافي، وهو في النهاية تمايز جزئي ونسبي، ليس سياسياً ولا عنصرياً. يقتنص دنقل في قصيدة الجنوبي خلوة من القضايا القومية لتبدأ التساؤلات الوجودية وتتداعى ذكريات طفولته وصباه، لكن تعبير الجنوبي لا يستطيع أن يفارق روح الفارس ومنصة الخطيب وجملة التعريف التي ترتقي بالعبارة من عاديتها إلى جلالها، "فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه" أريد من زماني ذا أن يبلغني*** ما ليس يبلغه من نفسه الزمنُ" كما يقول المتنبي سلفُ دنقل في الشعر والروح القومية.

وعلى العكس فصلاح الدين الذي رآه أمل دنقل في "كل واحد من الماشين" الذين سيحاربون في حطين يتحول إلى اسم شارع تلتقط فيه الصورة. نعم يلعب الاسم دورَه ولكنه دور مخبوء كالعلامة المائية، والجندي المجهول. القصيدة تتفتح معانيها من ملاحظة البسيط والعادي وفرض الاختزال على ما يمكن أن يكون ضخماً وصاخباً. لذا تنطلق العديد من قصائد شطريت من محادثة بين شخصين، يمكن مطابقة أحدهما بالشاعر، كما في محاورته مع صديقته اليهودية أو صاحب عربة الطعام اليوناني. وعندما يفتقد المحاور الثاني يصبح القارئ هو المخاطب كما في الاقتباس السابق من قصيدة "تأمل سريع". يتفتح المعنى من تجاور الأشياء والأسماء كما يتفتح من تجاور جمل المتحاورين بنبرة يغلب عليها الهدوء وأحياناً تتسم بالإحساس بانعدام الجدوى لصعوبة التوفيق بين الأضداد.
وفي مثل هذا النوع من الكتابة تصبح المفارقة والتناقض الظاهر اللذان يخرجان كلاهما من مشكاة التخالف بين ظاهر القول وباطنه هما قاطرتا القصيدة، فالجدارية المهداة لمحمود درويش تكتب بلا جدار، لربما، فلا جدار يفصل الإنسان عن الإنسان، عربيا كان أم يهودي. وقصيدة "تأمل سريع" تقوم كلها على المفارقة بين ما يراه القارئ في القصيدة وبين بواعثها وسياقها الخارجي. وكما في قصيدة "عرض احتفالي بالنصر" تشهد نيويورك مسيرة الابتهاج بالانتصار على شيطان العراق، وفي ركن منزوٍ في الصحيفة توجد صورة  امرأة من هذا البلد الشيطاني، وعلى يديها طفلها يومئ بإيماءة مبتسرة، منقطعة وبخط صغير كتب تحت الصورة: "امرأة عراقية مسكينة تحمل طفلها — جثة هامدة".

ملحوظة: كتبت هذا المقال بناء على دعوة من قسم اللغة العبرية بالكلية لحضورعرض الباحثة الدكتورة ناهد صلاح لما أنجزته في رسالة الدكتوراه التي تتناول شعر الرفض عند أمل دنقل وعند الشاعر اليهودي المغربي الأصل سامي شالوم شطريت