السبت، 10 ديسمبر 2011

الفكر الاجتماعي عند الإمام الشعراني: مختارات من البحر المورود

العهد رقم 62
أخذ علينا العهود أن نتصدق كل يوم بما أمكن ولو رغيفا أو فلسا أو ثمرة أو بصلة لكي لا ينزل علينا بلاء في ذلك النهار إن شاء الله تعالى فإن رسول الله صلى الله عليه 
وسلم يقول "باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها" (متفق عليه) انتهى

فمن لم يتصدق كل يوم وأصابه بلاء فلا يلومن إلا نفسه لأن شرط الصدقة الدافعة لشيء أن تكون مُشاكِلةً له في العادة كِبَراً أو صِغَراً، ولا يعرف ذلك إلا من نور الله قلبه، فالتهمةُ بسرقة مال له جِرمٌ، والتهمة بفساد إمرأة أو جارية مثلا لا يكفي فيه مثلُ نصف أي نصف دينار غالباً) ولا ثوبٌ خلق ونحوهما، وإنما يشاكله نحوُ ستين رغيفا للمساكين أو الكلاب، وقس على ذلك. والله أعلم.

العهد رقم 64
أخذ علينا العهود أن نبدأ في اصطناع المعروف بالأمور التي تدوم ويتوالد منها الأجر،، كحفر الآبار وإعانة من يتزوج، ليكون لنا إن شاء الله أجر جميع ما يتولد من ذلك المعروف من الماء المتفجر من العين، ومن الأعمال الصالحة التي تكون للذرية إن شاء الله. 

وأما السيئة فليس علينا إن شاء الله تعالى منها إثم، كما لا إثم على أبينا آدم عليه السلام من جهة ذريته فافهم.

ثم اعلم يا أخي أن الإعانة على النكاح أفضل من الإعانة في فك الرقاب، لأن النكاح أفضل نوافل الخيرات، إذ هو السبب لإيجاد المجاهد وغير المجاهد، فلولا النكاح ما وجد أحد من الخلق، ومعلوم أن الأجر يعظم بعظم السبب فاعلم ذلك.

واحذر يا أخي أن تخرج من الدنيا وعندك ألف دينا وأكثر ولم تحفر بئرا ولم تزوج فقيرا ولم تكسُ يتيما ولم توف عن معسر دَينا، ولم تدخل على جار سرورا فإن ذلك هو الخسران المبين وكأنك ولم تدخل الدنيا.

وسمعت شيخنا رضي الله عنه يقول: إن لم يبك على موت صاحب العشرة آلاف دينار مثلا مئة نفس من المعارف والجيران ومن كان يعولهم  فمآل زاده إلى النار، فكل صاحب مائة دينار عليه نفقة فقير كل يوم زيادة على عياله، إذا لزم القناعة، ولزوم القناعة أن يأكل  يوما بعد يوم أو أكلة واحدة في كل يوم وليلة، فمن أكل مرتين لا يسمى قانعاً.


العهد 122


أخذ علينا العهود أن لا نمكن أحدا ممن صحبنا أو صحبناه أن يتهاون في تعاطي أسباب الدنيا إذا قوي يقينه بالله عز وجل [بمعنى ألا يترك الشيخ صاحبه يتهاون في تعاطي أسباب الدنيا لأن الصاحب قد قوي يقينه وعلم أن رزقه مقدر له وسيأتيه سعى أم لم يسع] بل يأخذ في الأسباب ليلا ونهارا 
...
العهد 123
أخذ علينا العهد بتزويج البكر إذا بلغت
...
وسمعت أخي أفضل الدين  يقول لبعض الإخوان: عجل بتزويج بنتك ما استطعت ولا تقيد تزويجها على أحد معين ولا بنظام فيه تعنت فتنفر نفوس الناس عنها ثم تقع بعد ذلك في أخبث الناس حالا. وارفق بكل من يطلبها ولا تحتقر صناعته ولا رثاثة حاله.


العهد 124
أخذ علينا العهود ألا نمكن أحدا من إخواننا يشهد على ابنته أن ما عندها من جهازها ملك لوالدتها أو والدها أو خالتها بقصد حرمان الزوج مما أحله الله له فإن ذلك حرام ونفاق وعلامة على سوء الاعتقاد والبخل وطول الأمل الذي ما فوقه بخل. ثم إنه لا يبارك لك يا أخي فيه ومن شك في ذلك فليجرب والله أعلم


125
أخذ علينا العهد ألا نكلف الرجل ما لا يطيق إذا تزوج بنتا لنا أو أختا وذلك كأن نقدر عليه نفقة معينة أو كسوة معينة زائدة على حال الزمان الذي نحن فيه، ولتحذر الأم من التعنت على الزوج في فعل مصطلح الناس الذي اندرس حكمه باندراس الأسباب وموت الدنيا وذلك كأن تشترط عليه ألا يتدخل بنتها عليه إلا بطبخ الأطعمة الفاخرة والمغاني أو ألا يتزوجها إلا بمهر أمها فإن الأمر رجع إلى القهقرى قهرا والله غني حميد
ملحوظة: في كلام الإمام إشارة إلى حدوث تدهور اقتصادي في مصر بعد دخول 
العثمانيين.


العهد137
أخذ علينا العهود أن لا نشدد في إزالة المنكر إلا إذا كان ذلك المنكر يهدم الدين ... كأخذ أموال الناس بغير حق وكالمراودة لزوجة أحد عن نفسها وكالغصب وقطع الطريق ونحو ذلك، أما مثل آلات اللهو المختلف في تحريمها بين المذاهب كالطبل والمزمار وسماع آلات الطرب واللهو والاجتماع في مواضع التنزهات فلا يهدم الدين شيء من ذلك، وكذلك موالد الأولياء كمولد سيدي أحمد البدوي وسيدي إبراهيم الدسوقي وغيرهما... واعلم يا أخي أن مصالح الموالد والمفترجات أكثر من مفاسدها  بيقين من تنفيق سلع البياعين ونحو ذلك والله غفور رحيم. انتهى بتصرف يسير


تعليق: هذا العهد مهم في تبيين منهج السادة الصوفية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واختلافه عن منهج الوهابية السلفيين. كما أنه ينظر للموالد من ناحية اقتصادية لما يجري بسببها من رواج اقتصادي في البلد التي تحوي المولد أو لمن أتى .لتلك البلد لتجارة سلعة ينفق بها على بيته وعياله. ولو أحسنت الدولة استغلال الموالد في السياحة الدينية وتحويلها إلى مواسم ثقافية خاصة للثقافة الإسلامية أو الشعبية البريئة وكذا إلى مواسم للتجارة والمعارض لعادت بخير كثير. والعجيب أن محمد رشيد رضا كتب مقالا سمى فيه الموالد بالمعارض.







انتهى من طبعة دار الكتب العلمية تحقيق محمد أديب الجادر بتصحيح يسير في لفظ



ملحوظة: هذه الرسالة ستجدد كلما سنح الوقت لجمع كل العهود ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي.

الجمعة، 9 ديسمبر 2011

الليبرالية ومشهد من التاريخ الإسلامي

 لم أفاجأ حين قرأت أن جون ستيورات مل أحد كبار منظري الليبرالية كان يرى في جلال الدين أكبر، الامبراطور المغولي الذي حكم الهند في القرن السادس عشر وأوائل السابع عشر نموذجاً  للاستثناء الممكن من مبدأ عدم تدخل الدولة في حرية الأفراد وعدم تحكم الأغلبية في الأقلية بذريعة أن جلال الدين أكبر يمثل نموذجاً للتدخل في حياة الأجلاف والهمج بما يرفعهم إلى صف التحضر والتمدن. فجلال الدين أكبر هو ذلك الإمبراطور الذي تكلم عنه أبو الحسن الندوي في كتابه عن الإمام أحمد السرهندي من سلسلة كتب رجال الفكر والدعوة في الإسلام.

 والإمام أحمد السرهندي أحد كبار المتصوفة الذين امتازوا كذلك بالتضلع من العلوم الشرعية، وشيخ الطريقة النقشبندية في عصره. وكان رجلا عظيمَ الأثر على الإسلام في الهند حتى سمي بمجدد الألف الثاني. ويمكن القول بأن النهضة العلمية الإسلامية في الهند مدينة له بالكثير ولو عن طريق أحد أتباعه المتأخرين عنه في الزمان الإمام أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي المعروف بشاه ولي الله صاحب كتاب حجة الله البالغة.

أما جلال الدين أكبر فقد كان ليبراليا من الطراز الأول وسعى في التلفيق بين الأديان المختلفة خاصة الإسلام والهندوكية والكاثوليكية الوافدة مع البرتغاليين. وقد تصدى الإمام السرهندي لمحاولة الإمبراطور "أكبر" إذابة الفوارق بين الأديان ومحو تمايزها عن بعضها بما يهدد حقيقة الإسلام نفسه حتى سجنه أكبر في قلعة كوليار.

وقد انتهت مغامرة أكبر تلك بوفاته سنة 1605. ولم يسر أبناؤه على دربه، بل ما هي إلا سنوات وحكم الهند السلطان عالمكير أورانجزيب الذي ألفت في عصره الفتاوى الهندية المعروفة أيضاً بالفتاوى العالمكيرية وكان رجلا صالحا متصوفاً محباً للعلم والعلماء، ويقال إنه كانت بينه وبين أبناء الإمام السرهندي صلة وثيقة.

إن كان جلال الدين أكبر هو الإمبراطور الذي رأت فيه الليبرالية استثناء على قواعدها لأنه والإمبراطور شارلمان نموذجان لتمدين البرابرة، فبإمكاننا أن ننتظر مستقبلاً غير مزدهر للوضع السني تحت حكم ليبرالي تضيع فيه التمايزات بين المذهب السني وغيره من المذاهب، خاصة والليبراليون لا يمانعون في أن يتغير الوجه الديني في مصر بطريق أو آخر. وسبب عدم  ممانعتهم هو أنهم يرون أن المصريين السنة ليس من حقهم التصرف بشكل يحمي هذا المذهب بما يتعدى على حق غيرهم في الوجود في المجال العام في نظر الليبراليين. وليس هناك محذور مثلا عند الليبراليين في وجود نشاط تبشير شيعي واسع النطاق ما دام لم يتعد على الحريات الشخصية للآخرين، وأياً كانت النتيجة التي يمكن أن يؤدي إليها هذا   التبشير الشيعي فلا ينبغي منع أي نشاط مشروع في الرؤية الليبرالية، والمشروع في الرؤية الليبرالية هو ما لا يتضمن تعديا .على الفرد لصالح الفرد نفسه أو لصالح الجماعة

من هنا نفهم الانتقاد الذي وجهه محمد البرادعي للأزهريين المطالبين بتقييد الشيعة ومنعهم من إظهار شعارهم وشعائرهم في  المجال العام. كم يمكننا التفكير في عواقب استخفاف الليبراليين بكون مصر قلعة الفكر السني في العالم الإسلامي وما قدمته 
للوسطية الإسلامية من إسهام عبر التاريخ.


والحقيقة أنني كلما حاولت التعاطف مع الدكتور البرادعي وجدته ينفرني منه. يقول مثلاً: الثورة قامت من أجل الحرية، فلا ينبغي  التضييق على الشيعة.  وهذا الكلام ينم عن فكرة بسيطة هي أن الدكتور البرادعي لا يشعر بضرورة بقاء المنظومة الإسلامية التقليدية وأن الزمن قد يكون تجاوز مقولات شرعية نراها نحن المنتسبين لهذا المنهج الأزهري الوسطي مقولات قطعية، كما أنه يرى بالضرورة أن الليبرالية تتجاوز الأديان، وربما عبر تعبيرا مخففا أو مراوغا عن ذلك فيقول مثلاً: إن الليبرالية تمثل روح الأديان التي تشجع على التسامح والتعاون واحترام الآخر، إلى آخر تلك المفاهيم التي تحمل ظاهراً طيباً وقد تحمل في باطنها ما نختلف معه ولا نقره.

نعم قامت الثورة قامت من أجل الحرية، ولكن الغالبية الساحقة ممن قاموا بها لم يثوروا انطلاقا من الأسس الفلسفية لليبرالية التي تجعل الحرية قيمة مطلقة، بل قاموا بالثورة بروح محلية تنتفي ما تشاء وتهجر ما تشاء. والحرية التي لا تسمح لجموع الشعب بتنظيم الحياة العامة بناء على توافق عام من أي شيء تستمد سلطتها تلك؟ بمعنى آخر: لماذا يجب أن تكون الحرية شاملة لجماعة مرفوضة شعبيا لا تقوم بممارسات شاذة في يوم عاشوراء فحسب بل تطعن في مقدسات الغالبية العظمى من الشعب كأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب?! ليقل لنا الدكتور البرادعي من أين أتى بهذه الرؤية المتطرفة وما دليله العقلي على صحتها، ولماذا ينبغي أن نستحسنها؟ هذا فضلا عن أن بعض الوجود الشيعي المحدود في مصر هو نتاج عصر فاسد أصلاً وبيئة غير صحية بالمرة هي بيئة عصر مبارك، كما أنه نتاج تمويل إيراني ومحاولة للتدخل في الشأن الديني المصري مع قمع كامل لأهل السنة في إيران رغم أن نسبتهم لا تقل عن ربع السكان.

الاثنين، 5 ديسمبر 2011

حول مصطلح "الإسلاميين"


أرجو القراءة للنهاية:


الإخوان والسلفيون  وربما حزب الوسط وغيرهم يستخدمون مصطلح "الإسلاميين" ليشيروا إلى أنفسهم، ورغم الاختلاف البين بين هذه الفرق فهم جميعا يدّعون هذه الدعوى، ويستغلونها لتزكية أنفسهم عند الجمهور المسلم. وهذا المصطلح استخدمه الإمام أبو الحسن الأشعري ليكون عنوان كتابه مقالات الإسلاميين الذي ألفه قبل سنة 320 هجرية وضم فيه الخوارج والشيعة والمعتزلة وغيرهم من الفرق الإسلامية وحكى مقالاتهم. وعندما استخدم المصطلح لم يكن استخدامه له تزكية لأي فريق من هذا الفرق ولا ثناء عليه، بل نعتهم بذلك لأن كل فرقة كانت تعتقد أنها أصح نسبة للإسلام، دون أن يوافقهم على اعتقادهم. ومن المعلوم أن فريقا من الليبراليين (عمرو حمزاوي) يقبلون بالمرجعية الإسلامية (ولو للضرورة العملية أو لأنها مبنية على التوافق العام الذي هو ركن من أركان الليبرالية) ولا يسعون في التصادم مع نص المادة الثانية من الدستور ولا مع نص المادة الأولى. 
أما الجماعات التي تستخدم هذا المصطلح في هذه الأونة فكثيرة ولكن أخص منها أربعة: الإخوان، السلفيون، الجماعة، الوسط


وهنا أسئلة:
- لماذا تقصر تلك الجماعات استخدام المصطلح على نفسها؟ وهذا هو الأمر الهين.
-ثانياً لماذا تستغل بعض هذه الجماعات خطابا إقصائيا تجاه الآخر بخلاف مقصد الإمام الأشعري الحيادي؟
-لماذا تستغل بعض هذه الجماعات هذا المصطلح سبيلا لتزكية نفسها في عيون البسطاء والعوام مع أن مقصد الأشعري كان أنبل من هذا؟


الحقيقة هي أن أقل هذه الجماعات إقصاء للآخر هي الأكثر اتفاقا مع استخدام الإمام الأشعري للمصطلح. ولا شك أننا لو حاولنا التمييز بين هذه الجماعات فسنجد روح الجمع لا التفريق تغلب عند الوسط والإخوان وتتضاءل عند السلفيين والجماعة، وأن السلفيين هم الأسوأ من الجميع ورصيدهم في محاولة إخراج غيرهم من الإسلام أصلا رصيد أسود مجلل بالعار والشنار.

ولكن يعيب الإخوان في نظري ضيق مصادر التلقي عندهم واعتمادهم غالبا على كتابات شيوخ الجماعة دون غيرهم، وتزكية منهجهم وإعلائه على المناهج الأخرى وجعله مصفاة لجميع الآراء والمذاهب، فضلا عن أن اضطهادهم في العصور السابقة أوجد حالة من القبلية النسبية بين أفراد الجماعة تدمغهم بحزبية ضيقة بحيث تتقدم رابطة الجماعة على رابطة الإسلام ورابطة الوطن أحيانا رغم خطابهم المنفتح.

أما السلفية فيكفي أن تكتب اسم أي فرقة إسلامية غير السلفية ثم تدخل إلى المواقع السلفية لتقرأ عنها، وستجد هذه الفرق جميعها خارج نطاق الإسلام أو داخل نطاقه ولكنها فرق هالكة كلها. اكتب مثلاً الماتريدية التي انتسب لها الإمام النسفي صاحب التفسير ومعظم فقهاء مذهب أبي حنيفة والفاتحان العظيمان محمود الغزنوي ومحمد الفاتح وابحث على المواقع السلفية وافترض أنك ماتريدي العقيدة فستجد نفسك مرميا في قعر جهنم عند السلفيين. وقس على هذا كل الفرق الأخرى التي تناصبها السلفية العداء بلا هوادة. 

التصوف والعلمانية.. سبق الصوفية إلى تقرير حاكمية الشريعة ونبذ غيرها من القوانين

يتعجب المرء من سذاجة بعض الصوفية ومسارعتهم لنصرة بعض التحالفات العلمانية بل والاندراج فيها أحياناً. ويتعجب المرء كذلك من إنكار بعض الناس ما في التصوف من أصالة ونسبة حقيقية للإسلام.

وبين أيدينا نص غير مسبوق في تاريخ الإسلام فيما أعلم يناقش ما يسمى في عصرنا بمبدأ الحاكمية، أي حاكمية الله عز وجل المتمثلة في حاكمية الشريعة. حتى لقد سألني بعض معارفي الطيبين من اتجاهات إسلامية أخرى عن مساهمة الصوفية في قضية الحاكمية، فقلت لهم: بل الناس في هذه القضية عالة على الصوفية، لأن الفضل في مسألة حاكمية الشريعة على الحياة وعدم جواز الحكم بقوانين وضعية في وجود الشريعة هو لمن سبق إليه وقرره ونص عليه، بحيث لا يسع التالي الذي يأتي بعد سبعة قرون أن يدعي السبق إليه أو الانفراد بالفضل فيه.
وقد قرر الشيخ الأكبر السيد محيي الدين بن عربي (توفي 638 هجرية) حاكمية الشريعة وعدم جواز العمل بالقوانين الوضعية البشرية في الفتوحات المكية، متفرقاً على عدة أبواب وجمعه الإمام الشعراني مركزاً في المبحث الثلاثين من كتاب اليواقيت والجواهر. وأبدأ بإيراد النقول التي نقلها الإمام الشعراني المتوفى سنة 973 هجرية:

قال الشيخ محيي الدين رحمه الله: اعلم أن جميع الحدود التي قدرها الرب سبحانه وتعالى في هذه الدار لا تخرج عن قسمين، قسم يسمى سياسة حكمية بكسر الحاء [نسبة إلى الحكمة] وقسم يسمى شريعة وكلاهما إنما جاء لمصلحة بقاء الأعيان الممكنات [لعل الصواب هنا: أعيان الممكنات] في هذه الدار وسلامتها من الفساد.

فأما القسم الأول فطريقه الإلقاء بمثابة الإلهام عندنا، وذلك لعدم وجود شريعة بين أظهر أهل ذلك الزمان فكان الحق تعالى يلقي في نظر نفوس الأكابر من الناس الحكمة فيجدون الحدود ويضعون النواميس في كل مدينة وجهة وإقليم بحسب المزاج الذي تقتضيه طباع تلك الناحية فانحفظت بذك أموال الناس ودماؤهم وأهلوهم وأرحامهم وأنسابهم وسموها نواميس ومعناها أسباب خير لأن الناموس في الاصطلاح هو الذي يأتي بخير عكس الجاسوس، فهذه هي النواميس الحكمية وضعها العقلاء عن إلهام من الله تعالى من حيث لا يشعرون من أجل مصالح العالم ونظمه وارتباطه انتهى.

وقال في الباب السابع والستين وثلثمائة: اعلم أنه إنما يتعين استعمال النواميس الوضعية والقوانين السلطانية في أيام الفترات، [أي خلو العالم من شريعة رسول] وذلك ليجمع الله تعالى باستعمالها شمل العالم.

قال: وما حرم الله تعالى من وضع ذلك أجراً ما، من باب (إن الله لا يضيع أجر المحسنين).

قال: وأما استعمال النواميس والقوانين في زمن الشرائع فلا ينبغي استعمالها إلا إن وافقت الشرائع، لأنه يحرم على كل حاكم أن يتعدى شريعة نبيه صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فاؤلئك هم الفاسقون).

وقال في الباب التاسع والثلاثين وثلاثمائة: اعلم أن الشرع شرعان، شرع إلهي، وشرع حكمي سياسي عند فقد هذا الشرع [أي الإلهي]، فلا تخلو أمة عن نذير يقوم بسياستها لقاء المصلحة في حقها سواء كان ذلك الشرع إلهيا أم سياسيا. انتهى النقل.

والملاحظ هنا أن الشيخ الأكبر يجعل القوانين الوضعية السابقة على إرسال الشرائع ذات أصل إلهي هي الأخرى لأنها متلقاة بطريق الإلهام، ومن المعلوم أن الإلهام يسقط الاعتبار به في وجود الوحي الصريح، أي في حالة التعارض بينهما، وهذا بديهي لا يحتاج لبيان. ولكن فائدة كلام الشيخ الأكبر هي نفي ادعاء العلمانيين استقلال العقل بالشرائع السابقة على النبوات أو الواقعة في الفترات الفاصلة بين شرائع الأنبياء والمرسلين. ومما يفهم ضمنا أيضاً من كلامه ضرورة انقطاع الإلهام بشرائع تخالف الوحي الصريح في وجود الوحي الصريح.
فههنا نص كامل على مسألة الحاكمية وأصل الشرائع الوضعية وبيان دور العقل في إنشاء الشرائع السابقة على النبوات أو المتخللة لها عند انقطاع النبوات وشرائعها وأن الأصل في وجود هذه الشرائع إلهام ورحمة إلهيين كي تنتظم معايش العباد.

كما يقتضي كلامه أن وجود الشرائع الموحى بها بوحي صريح كشريعة الإسلام أمر مشتمل على رحمة تفوق الرحمة التي استدعت إلقاء الشرائع الوضعية في قلوب وعقول أهل هذه الشرائع، فالرحمة الكبرى هي في الوحي الصريح وهو تفوق وتعظم كثيرا على رحمة الإلقاء القلبي التي رحم الله بها الأمم السابقة.

كما يقتضي الكلام أن ما يوضع من الشرائع بعد نزول الشرع الإلهي الصريح وبلوغه للأمم المختلفة لا يكون بإلقاء إلهي، بل يكون بهوى بشرى عار عن الضبط الذي أتت به الشرائع القديمة والشريعة الإسلامية الإلهية.

فالمؤمن لا يحكم بشرع وجد بطريق الهوى على شرع وجد بطريق الوحي المعصوم، ومن يقل خلاف ذلك فقط ظلم نفسه ظلما بيناً.

فهذا هو التصوف الذي يسبق في كل ميدان ولا يُسبَق.

أفكار أولية نحو حركة صوفية فاعلة في المجال السياسي:


أفكار أولية نحو حركة صوفية فاعلة في المجال السياسي:

- إن  التصوف الخالص المبثوث في كتاب الشيوخ الأكابر المعتمدين لا كلام أصحاب الأهواء من أدعياء المشيخة المعاصرين هو النور الذي نسترشد به في هذا المسعى الشريف.

- والصوفية ليسوا شيئا غير الإسلام وأحكامه ولا يدعون إلا إلى ما يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

- والصوفية يؤمنون بوجوب بسط ظل شريعة الإسلام فوق جميع مناحي الحياة.

- ولا يجوز في دين الصوفية الاحتكام إلى القوانين الوضعية في وجود الشريعة الإسلامية الغراء التي ارتضاها لنا الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا نستبدل برضا الله ورضا رسوله الله عليه وسلم سخطا ودنيا ولا نستجلب بسخطهما ثناء أهل الدنيا وإعلامييها وصحفييها.

- والصوفية يجتمعون مع أي فريق أو جماعة إسلاميتين على هذه المبادئ ولا يحيدون عنها.

- - ونؤمن نحن الصوفية أن الأساس في التطبيق هو الدافع الفردي وأن بناء القلوب على حب الطاعة والإعراض عن المعاصي هو الأصل وأن العقوبات والحدود معينة على تحقيق هذا الغرض وليست منشئة له.

- ونؤمن كذلك أن وجود القوانين المنظمة لحياة الناس وانتظام عيشهم تحت ظل الشريعة أمر ضروري لصحة المجتمع وبقاء صبغته الإسلامية.


- ونؤمن أن درء الحدود بالشبهات مقصد شرعي أصيل وأن الأساس في المجتمع هو التراحم والمودة وأن النصيحة قبل الفضيحة، وأن المقصد من وجود العقوبات هو الردع لا نفس العقاب وأن وجود العقوبة في القانون عون للإنسان على نفسه، وأن العقوبة كما هي في أي قانون وسيلة لمنع تفاقم الجرائم والمخالفات.


- ونؤمن نحن الصوفية أن الدنيا مزرعة للآخرة وأن وجهتنا هي الله ورسوله.

- ونؤكد على إصلاح التصوف وتنظيم وجود الطرق الصوفية وألا يتسلط عليها الجهال.

- ونشدد على ضرورة تحصيل مشايخ الطرق للعلوم الشرعية والثقافة الإسلامية الضرورية التي تشمل المعرفة بالتاريخ الإسلامي وتاريخ التصوف فضلا عن تحصيل الضروري من علوم العقائد والفقه والتفسير والحديث.


- ونؤمن نحن الصوفية بالتعدد في إطار الوحدة والتنوع في إطار الثوابت.

-وأن طبيعة البشر تقتضي ألا يُقيدوا بمذهب أو رأي واحد وألا يُحملوا عليه.

- ونؤمن بحق كل إنسان في اتباع ما صح من المذاهب الفقهية بلا إنكار على المخالف.

- ونؤمن أن أحوال البشر واضطراراتهم قد تقتضي توسعاً في الأخذ عن جميع مذاهب أهل السنة المتواترة وغير المتواترة.

- ونؤمن بوحدة الثقافة المصرية وضرورة أن يكون التعليم معبرا عن ثقافة مصرية أصيلة ووسطية.

- ونرفض استنساخ نماذج توصف بأنها إسلامية تأتينا من دول وثقافات أخرى تصطدم بسماحة الإسلام ووسطيته.

- ولغير المسلمين من النصارى واليهود الحرية في ممارسة شعائر أديانهم والاحتكام إلى شرائعهم.

- وأنهم مواطنون كاملون لهم الحق في ممارسة العمل الوطني بكافة أشكاله.

- ونؤمن بأن التنمية المستدامة التي لا تنهك الطبيعة وتتصالح معها ولا تستنفد مورادها ولا تهدرها هي التعبير العصري عن زهد الصوفية من سلفنا الصالح.

- ونؤمن بأن الإنسان قلب وعقل وبدن، وأن بناء هذه الملكات جميعاً أمر لا يسع أي نظام إسلامي إهماله.

- ونؤمن بأن تحقيق البيئة النظيفة والصحية ضرورة لحياة الإنسان حياة صحية وهانئة.

- ونؤمن بأن للإنسان الحق في الترويح نفسه بما يتفق مع أقصى درجات الإباحة في الإسلام.

- ونؤكد على أهمية الاقتصاد الإنتاجي وضرورة إعلائه على الاقتصاد الاستهلاكي.

- ونؤمن بأن السياحة من حيث هي سياحة وتجوال في الأرض ونظر في آثار الأقدمين وفي بديع الصنع الإلهي والاستمتاع بزينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق أمر مباح وقد يكون مندوبا إذا صاحبته نية شرعية صحيحة.

- ونؤمن بتدوير المال وعدم كنزه حتى يؤدي وظيفته الاجتماعية.

- ونشدد على أهمية العمل الخيري وإحياء نظام الوقف.

- ونؤمن بالمبادرة الفردية في كافة مناحي الحياة وفي الاقتصاد ونؤمن كذلك بضرورة أن تضبط الدولة ميزان الدخول كي تتحقق العدالة الاجتماعية النسبية.

- ونؤمن بأن المرأة الفاعلة في مجتمعها خير من المرأة العاطلة عن الفعالية الاجتماعية.

- ونؤمن بدور الفنون والآداب في التعبير عن ذات الإنسان وإمتاعه.

محمد نصار