الاثنين، 5 ديسمبر 2011

التصوف والعلمانية.. سبق الصوفية إلى تقرير حاكمية الشريعة ونبذ غيرها من القوانين

يتعجب المرء من سذاجة بعض الصوفية ومسارعتهم لنصرة بعض التحالفات العلمانية بل والاندراج فيها أحياناً. ويتعجب المرء كذلك من إنكار بعض الناس ما في التصوف من أصالة ونسبة حقيقية للإسلام.

وبين أيدينا نص غير مسبوق في تاريخ الإسلام فيما أعلم يناقش ما يسمى في عصرنا بمبدأ الحاكمية، أي حاكمية الله عز وجل المتمثلة في حاكمية الشريعة. حتى لقد سألني بعض معارفي الطيبين من اتجاهات إسلامية أخرى عن مساهمة الصوفية في قضية الحاكمية، فقلت لهم: بل الناس في هذه القضية عالة على الصوفية، لأن الفضل في مسألة حاكمية الشريعة على الحياة وعدم جواز الحكم بقوانين وضعية في وجود الشريعة هو لمن سبق إليه وقرره ونص عليه، بحيث لا يسع التالي الذي يأتي بعد سبعة قرون أن يدعي السبق إليه أو الانفراد بالفضل فيه.
وقد قرر الشيخ الأكبر السيد محيي الدين بن عربي (توفي 638 هجرية) حاكمية الشريعة وعدم جواز العمل بالقوانين الوضعية البشرية في الفتوحات المكية، متفرقاً على عدة أبواب وجمعه الإمام الشعراني مركزاً في المبحث الثلاثين من كتاب اليواقيت والجواهر. وأبدأ بإيراد النقول التي نقلها الإمام الشعراني المتوفى سنة 973 هجرية:

قال الشيخ محيي الدين رحمه الله: اعلم أن جميع الحدود التي قدرها الرب سبحانه وتعالى في هذه الدار لا تخرج عن قسمين، قسم يسمى سياسة حكمية بكسر الحاء [نسبة إلى الحكمة] وقسم يسمى شريعة وكلاهما إنما جاء لمصلحة بقاء الأعيان الممكنات [لعل الصواب هنا: أعيان الممكنات] في هذه الدار وسلامتها من الفساد.

فأما القسم الأول فطريقه الإلقاء بمثابة الإلهام عندنا، وذلك لعدم وجود شريعة بين أظهر أهل ذلك الزمان فكان الحق تعالى يلقي في نظر نفوس الأكابر من الناس الحكمة فيجدون الحدود ويضعون النواميس في كل مدينة وجهة وإقليم بحسب المزاج الذي تقتضيه طباع تلك الناحية فانحفظت بذك أموال الناس ودماؤهم وأهلوهم وأرحامهم وأنسابهم وسموها نواميس ومعناها أسباب خير لأن الناموس في الاصطلاح هو الذي يأتي بخير عكس الجاسوس، فهذه هي النواميس الحكمية وضعها العقلاء عن إلهام من الله تعالى من حيث لا يشعرون من أجل مصالح العالم ونظمه وارتباطه انتهى.

وقال في الباب السابع والستين وثلثمائة: اعلم أنه إنما يتعين استعمال النواميس الوضعية والقوانين السلطانية في أيام الفترات، [أي خلو العالم من شريعة رسول] وذلك ليجمع الله تعالى باستعمالها شمل العالم.

قال: وما حرم الله تعالى من وضع ذلك أجراً ما، من باب (إن الله لا يضيع أجر المحسنين).

قال: وأما استعمال النواميس والقوانين في زمن الشرائع فلا ينبغي استعمالها إلا إن وافقت الشرائع، لأنه يحرم على كل حاكم أن يتعدى شريعة نبيه صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فاؤلئك هم الفاسقون).

وقال في الباب التاسع والثلاثين وثلاثمائة: اعلم أن الشرع شرعان، شرع إلهي، وشرع حكمي سياسي عند فقد هذا الشرع [أي الإلهي]، فلا تخلو أمة عن نذير يقوم بسياستها لقاء المصلحة في حقها سواء كان ذلك الشرع إلهيا أم سياسيا. انتهى النقل.

والملاحظ هنا أن الشيخ الأكبر يجعل القوانين الوضعية السابقة على إرسال الشرائع ذات أصل إلهي هي الأخرى لأنها متلقاة بطريق الإلهام، ومن المعلوم أن الإلهام يسقط الاعتبار به في وجود الوحي الصريح، أي في حالة التعارض بينهما، وهذا بديهي لا يحتاج لبيان. ولكن فائدة كلام الشيخ الأكبر هي نفي ادعاء العلمانيين استقلال العقل بالشرائع السابقة على النبوات أو الواقعة في الفترات الفاصلة بين شرائع الأنبياء والمرسلين. ومما يفهم ضمنا أيضاً من كلامه ضرورة انقطاع الإلهام بشرائع تخالف الوحي الصريح في وجود الوحي الصريح.
فههنا نص كامل على مسألة الحاكمية وأصل الشرائع الوضعية وبيان دور العقل في إنشاء الشرائع السابقة على النبوات أو المتخللة لها عند انقطاع النبوات وشرائعها وأن الأصل في وجود هذه الشرائع إلهام ورحمة إلهيين كي تنتظم معايش العباد.

كما يقتضي كلامه أن وجود الشرائع الموحى بها بوحي صريح كشريعة الإسلام أمر مشتمل على رحمة تفوق الرحمة التي استدعت إلقاء الشرائع الوضعية في قلوب وعقول أهل هذه الشرائع، فالرحمة الكبرى هي في الوحي الصريح وهو تفوق وتعظم كثيرا على رحمة الإلقاء القلبي التي رحم الله بها الأمم السابقة.

كما يقتضي الكلام أن ما يوضع من الشرائع بعد نزول الشرع الإلهي الصريح وبلوغه للأمم المختلفة لا يكون بإلقاء إلهي، بل يكون بهوى بشرى عار عن الضبط الذي أتت به الشرائع القديمة والشريعة الإسلامية الإلهية.

فالمؤمن لا يحكم بشرع وجد بطريق الهوى على شرع وجد بطريق الوحي المعصوم، ومن يقل خلاف ذلك فقط ظلم نفسه ظلما بيناً.

فهذا هو التصوف الذي يسبق في كل ميدان ولا يُسبَق.

هناك 4 تعليقات:

  1. سيدي الدكتور هل هناك من افتي بغير ذلك حيث انني اعتقد انها قضية بديهية حيث ان التشريع انما وجد لتنظيم العلاقة بين الافراد فى الدنيا من جهه وبين الناس وربهم من جهة اخري وان ابتعاد عن تلك المنظومة هو من سيسبب الفساد اما الاجتماعي او الفساد الشخصي

    ردحذف
  2. أنت تعلم يا مولانا بما وقع من تحالفات وتفاهمات بين بعض أدعياء التصوف وقوى علمانية متطرفة. وبالأمس فقط كان هناك تصريح لشخص يدعى إبراهيم زهران متحالف مع حزب نجيب ساويريس يطالب فيه بدولة مدنية. كما تعلم أن نفرا انساقوا لهذا ممن يكتبون على رابطة شباب الصوفية. فالحديث له ضرورته ووجهه. كما أننا نبين أن أكثر مشايخ الصوفية تعرضا للتكفير والتشريك، أي سيدي محيي الدين بن عربي أصّل لحاكمية الشريعة قبل أن يظهرالمتكلمون فيها في نصف القرن الأخير. ولابد من تسجيل ذلك لخفائه على الفريقين، المتمصوفة العوام المنساقين، والطوائف الإسلامية الأخرى.

    ردحذف
  3. سيدي سؤال يحيرني هل هناك بارقة امل فى اعادة التصوف الى صحيح وضعه ام كما احس غاب الشيخ المربي وغاب العلم الشرعي عن الشيوخ وانزوي الاولياء الصالحون.هل هذ نهاية التصوف الحقيقي ام هناك بارقة امل تراه يا سيدي تبرز فى سماء مظلمة ما بين جهل المتسلفة وبين جهل المتمصوفة.

    ردحذف
  4. التصوف الشرعي الخالص ربما لم يكن موجوداً في أي عصر من العصور اللهم إلا في عصر مشايخ الرسالة القشيرية المتقدمين، وحتى في ذلك الوقت لم يخلُ التصوف من وجود مشكلات كمشكلة الحسين بن منصور الحلاج رحمه الله، ولكن المشكلات زادت مع تتابع الأعصر. ولن يخلو مجال التصوف من وجود المشكلات، وإنما هي حركة تدافعية بين الحق والباطل تبقى على الدوام، وما نستطيعه هو السعي لحصار الباطل وتضييق نطاقه، في أنفسنا وخارج أنفسنا. ووجود المشكلات قانون إلهي يجعل الدنيا دار فرار والآخرة دار قرار، فلن تخلص الدنيا من مشكلاتها ومنغصاتها (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان)

    ردحذف