الجمعة، 9 ديسمبر 2011

الليبرالية ومشهد من التاريخ الإسلامي

 لم أفاجأ حين قرأت أن جون ستيورات مل أحد كبار منظري الليبرالية كان يرى في جلال الدين أكبر، الامبراطور المغولي الذي حكم الهند في القرن السادس عشر وأوائل السابع عشر نموذجاً  للاستثناء الممكن من مبدأ عدم تدخل الدولة في حرية الأفراد وعدم تحكم الأغلبية في الأقلية بذريعة أن جلال الدين أكبر يمثل نموذجاً للتدخل في حياة الأجلاف والهمج بما يرفعهم إلى صف التحضر والتمدن. فجلال الدين أكبر هو ذلك الإمبراطور الذي تكلم عنه أبو الحسن الندوي في كتابه عن الإمام أحمد السرهندي من سلسلة كتب رجال الفكر والدعوة في الإسلام.

 والإمام أحمد السرهندي أحد كبار المتصوفة الذين امتازوا كذلك بالتضلع من العلوم الشرعية، وشيخ الطريقة النقشبندية في عصره. وكان رجلا عظيمَ الأثر على الإسلام في الهند حتى سمي بمجدد الألف الثاني. ويمكن القول بأن النهضة العلمية الإسلامية في الهند مدينة له بالكثير ولو عن طريق أحد أتباعه المتأخرين عنه في الزمان الإمام أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي المعروف بشاه ولي الله صاحب كتاب حجة الله البالغة.

أما جلال الدين أكبر فقد كان ليبراليا من الطراز الأول وسعى في التلفيق بين الأديان المختلفة خاصة الإسلام والهندوكية والكاثوليكية الوافدة مع البرتغاليين. وقد تصدى الإمام السرهندي لمحاولة الإمبراطور "أكبر" إذابة الفوارق بين الأديان ومحو تمايزها عن بعضها بما يهدد حقيقة الإسلام نفسه حتى سجنه أكبر في قلعة كوليار.

وقد انتهت مغامرة أكبر تلك بوفاته سنة 1605. ولم يسر أبناؤه على دربه، بل ما هي إلا سنوات وحكم الهند السلطان عالمكير أورانجزيب الذي ألفت في عصره الفتاوى الهندية المعروفة أيضاً بالفتاوى العالمكيرية وكان رجلا صالحا متصوفاً محباً للعلم والعلماء، ويقال إنه كانت بينه وبين أبناء الإمام السرهندي صلة وثيقة.

إن كان جلال الدين أكبر هو الإمبراطور الذي رأت فيه الليبرالية استثناء على قواعدها لأنه والإمبراطور شارلمان نموذجان لتمدين البرابرة، فبإمكاننا أن ننتظر مستقبلاً غير مزدهر للوضع السني تحت حكم ليبرالي تضيع فيه التمايزات بين المذهب السني وغيره من المذاهب، خاصة والليبراليون لا يمانعون في أن يتغير الوجه الديني في مصر بطريق أو آخر. وسبب عدم  ممانعتهم هو أنهم يرون أن المصريين السنة ليس من حقهم التصرف بشكل يحمي هذا المذهب بما يتعدى على حق غيرهم في الوجود في المجال العام في نظر الليبراليين. وليس هناك محذور مثلا عند الليبراليين في وجود نشاط تبشير شيعي واسع النطاق ما دام لم يتعد على الحريات الشخصية للآخرين، وأياً كانت النتيجة التي يمكن أن يؤدي إليها هذا   التبشير الشيعي فلا ينبغي منع أي نشاط مشروع في الرؤية الليبرالية، والمشروع في الرؤية الليبرالية هو ما لا يتضمن تعديا .على الفرد لصالح الفرد نفسه أو لصالح الجماعة

من هنا نفهم الانتقاد الذي وجهه محمد البرادعي للأزهريين المطالبين بتقييد الشيعة ومنعهم من إظهار شعارهم وشعائرهم في  المجال العام. كم يمكننا التفكير في عواقب استخفاف الليبراليين بكون مصر قلعة الفكر السني في العالم الإسلامي وما قدمته 
للوسطية الإسلامية من إسهام عبر التاريخ.


والحقيقة أنني كلما حاولت التعاطف مع الدكتور البرادعي وجدته ينفرني منه. يقول مثلاً: الثورة قامت من أجل الحرية، فلا ينبغي  التضييق على الشيعة.  وهذا الكلام ينم عن فكرة بسيطة هي أن الدكتور البرادعي لا يشعر بضرورة بقاء المنظومة الإسلامية التقليدية وأن الزمن قد يكون تجاوز مقولات شرعية نراها نحن المنتسبين لهذا المنهج الأزهري الوسطي مقولات قطعية، كما أنه يرى بالضرورة أن الليبرالية تتجاوز الأديان، وربما عبر تعبيرا مخففا أو مراوغا عن ذلك فيقول مثلاً: إن الليبرالية تمثل روح الأديان التي تشجع على التسامح والتعاون واحترام الآخر، إلى آخر تلك المفاهيم التي تحمل ظاهراً طيباً وقد تحمل في باطنها ما نختلف معه ولا نقره.

نعم قامت الثورة قامت من أجل الحرية، ولكن الغالبية الساحقة ممن قاموا بها لم يثوروا انطلاقا من الأسس الفلسفية لليبرالية التي تجعل الحرية قيمة مطلقة، بل قاموا بالثورة بروح محلية تنتفي ما تشاء وتهجر ما تشاء. والحرية التي لا تسمح لجموع الشعب بتنظيم الحياة العامة بناء على توافق عام من أي شيء تستمد سلطتها تلك؟ بمعنى آخر: لماذا يجب أن تكون الحرية شاملة لجماعة مرفوضة شعبيا لا تقوم بممارسات شاذة في يوم عاشوراء فحسب بل تطعن في مقدسات الغالبية العظمى من الشعب كأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب?! ليقل لنا الدكتور البرادعي من أين أتى بهذه الرؤية المتطرفة وما دليله العقلي على صحتها، ولماذا ينبغي أن نستحسنها؟ هذا فضلا عن أن بعض الوجود الشيعي المحدود في مصر هو نتاج عصر فاسد أصلاً وبيئة غير صحية بالمرة هي بيئة عصر مبارك، كما أنه نتاج تمويل إيراني ومحاولة للتدخل في الشأن الديني المصري مع قمع كامل لأهل السنة في إيران رغم أن نسبتهم لا تقل عن ربع السكان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق